top of page

الرفيق المجاهد صلاح المختار - نقد نظرية ترييف المدينة - الحلقة التاسعة


نقد نظرية ترييف المدينة

- الحلقة التاسعة -



20- ثمة خلل جوهري في نظرية ترييف المدينة ، هو ، أنها تركز على سلبيات البداوة مثل النهب والعدوان وأُحادية التفكير وتهمل عمداً إيجابياتها المعروفة مثل النخوة واحترام التراتبية الاجتماعية والوفاء بالوعد والنزعة الأبوية – البطرياركية – والتلاحم القوي للعشيرة والأسرة وغلبة الروح الجماعية واحترام الكلمة والوعود والمعاهدات .

21- إن السلبيات الأساسية للتقاليد البدوية والريفية وفقاً لهذه النظرية وهي النهب والغزوات والتفكير الأُحادي المنغلق ، الاستبداد ، والقسوة المفرطة ليست صفات كل البدو بل بعضهم وهذا البعض يعد من هوامش البدو غالباً والذين نبذهم المجتمع البدوي ، لأنه مجتمع تسوده قيم أخلاقية راقية تفتقر إليها مدن الحضارة الغربية وحتى بعض مدننا العربية .

22- ليس ثمة شك في أن البدو والريفيين عموماً تعرضوا لتأثيرات المدنية الحديثة نتيجة قدراتها الطاغية على التلغلغل في كافة الأمم والناس وتعديل أو تغيير الكثير من أسس تقاليدهم ، وهذه ظاهرة عالمية وليست مقتصرة على شعب ما ، فبقايا الهنود الحمر في أمريكا والشعب الأصلي في أمريكا اللاتينية والسود في أفريقيا وبدو التبت ... الخ .. تعرضوا لتأثيرات المدنية الحديثة خصوصاً التفسخ القيمي وتمزق الروابط الرحمية وقوة الأنانية والفردية ... الخ ، وبناء على هذه الظاهرة فإن التحلل القيمي تسلل حتى إلى صفوف بدو أُصلاء بهذه الدرجة أو تلك وما ظاهرة شيوخ السلطان الذين يغيرون ولاءهم مثل تغيير ملابسهم والذي نراه في أوساط شيوخ عشائر العراق إلا مثال واحد على هذا التأثير المفسد حتى العظم .

23- والخلل الآخر فيها هو أنها وهي تتهم البداوة بكل تلك الممارسات تتناسى عمداً أن أبناء الحضارة ومن نشأوا في حياة مدنية متقدمة أظهروا قدراً مرعباً من الاستبداد والنهب والإبادات الجماعية لملايين الناس ، وأمامنا ثمة حقيقة معاشة تقدم الدليل الحاسم على أن أكبر الانحرافات في السلوك البشري وأخطرها وأشدها تأثيراً على عموم الناس التي شهدتها الكرة الأرضية في كل تاريخها هي تلك التي تميز بها المتمدن ابن الغرب تحديداً ، وهذه الحقيقة تؤكد بلا لبس بأن العدوان والاستعداد للتحلل الأخلاقي والنهب والتفكير الأُحادي والانفعال عند اتخاذ القرارات وغيرها من السلبيات هي نتاج بذورة محشورة في الطبع البشري وليست سمات العالم الثالث أو البدو والريفيين حصراً ، والأمريكي والأوربي هما من سقيا تلك البذورة فنمت وصارت أشجاراً ضخمة متجذرة في ممارسات عالمنا الظالم .

24- الفساد أشكال ومنه فساد الضمير الجزئي أو الكلي ، مثلاً البدو والريفيين الذين أثرَوا فجأة واختل توازنهم ظهرت لديهم حاله انفصام واضحه بين تقاليد الفروسية البدوية وبين التحلل الأخلاقي الذي يتمثل في فقدان جوهر الفروسية وهو الشجاعة ، فالبدوي أصلاً شجاع ومقاتل شرس لأنه أصلاً ابن البادية وهي منطقه تحد وموت لكن تدفق المال فجأة على قطاع محدد من البدو والريفيين غير في واجبات الضمير فأصبح انتقائياً : فالضمير من جهة يعتز بتقاليد الفروسية البدوية ، لكنه من جهة ثانية تحلل وضعفت إرادة البدوي والريفي قدر تعلق الأمر بالفروسية فأبقى أشكالها كرقصات الحرب وحمل السيوف والخناجر وغير ذلك ، لكنه فقد القدرة على خوض الحرب وأصبح محباً للحياة ونزواتها أكثر من تمسكه بقيم الفروسية والمرؤءة والدين والصدق والأمانة والوفاء وتلك وغيرها من أهم نتائج افساد المال ، والحل الواضح والخبيث لدى ضمير مخزن بالشعور بالآثام هو التمسك بالشكليات بعد التخلي عن الجواهر .

25- تدفق المال الفجائي على الإنسان يهدم توازنه العام ويضعف رادعه الأخلاقي ويقزم أو يزيل قيمه النبيلة ويحوله إلى إنسان جشع وعدواني ومترفع على من يضطر للعمل تحت إمرته ، ويجره إلى تدهور معرفي وغياب لخطة العمل التي كان يقوم بها لضمان أمنه في الصحراء والريف الفقيرين لزوال الخوف من المستقبل والاعتماد على جهد خبراء يستأجرهم فيزداد أمية وجهلاً وهو ما يعمق تبعيته لمن يضمن سلامته وبقاء المال لديه ، وأخطر نتائج هذ التحول هو استعداده الكامل للتخلي عن الوطنية والحقوق القومية وتعاليم الدين للمحافظة على المال الذي حصل عليه فجأة وتحول – اي المال - إلى الإله الأعلى المتحكم في قراراته ومواقفه العامة والخاصة .

ولكن ، حينما لا يأتي المال الكثير فجاة وإنما يكون متوفراً طوال حياة الإنسان أو اكتسبه عبر قرون وبالتدرج تختلف تأثيرات المال على الانسان بصورة جذرية ففي العراق مثلا تقاليد الفروسية والوفاء والنزعة الابوية والتخطيط الاستراتيجي والغيرية وبقية الصفات الايجابية البدوية والريفية التي بلورتها مخاطر بيئة الصحراء والريف ، تواصل اقترانها بالثراء ولم يهدمها كما حصل لمن جاءه الثراء فجاة ، لأن في العراق عملية طويلة تاريخية أدت الى جعل الثراء الزراعي قبل اكتشاف الثروات المعدنية اولا ثم الثروة المعدنية عوامل تعزيز للقيم العليا والتقاليد العريقة البدوية والريفية وتفولذت تلك القيم بما جاء به الاسلام من قيم واستغلالها لصالح الشعب وليس لعوائل وحواشيها فاصبح الثراء العراقي مصدر قوة عامة وتعزيز للتقاليد العريقة وإزالة كل ما يمنع هذا الاقتران الطبيعي والضروري والمعبر عن تربية حضارية متقدمة .

حالة العراق تثبت بشواهد تاريخية ومعاصرة بان الثراء غير الطارئ ولا السريع له اثار ايجابية على عامة الناس فلقد كان العراق عبر التاريخ غنيا بأرضه الزراعيه ومياهه الوفيرة وتراكم خبرات الحضارات المتعاقبه فيه وهو القطر الوحيد في العالم الذي شهد تعاقب عدة حضارات رئيسة على ارضه تركت كل منها اثارها الايجابية عليه بعد زوالها ، فاندمجت قيم البداوة والريف مع قيم التمدن فانتجت حضارة عريقة غرزت ما تكون خلالها من تقاليد عبر آلاف السنين في الطبع العراقي ولهذا فإن فترات الإفقار كغزوه وتدميره لم تكن تغير الطبيعة العراقية الثانية او المكتسبة عبر الاف السنين بل بقي العراق طوال الفيات الرفاهية والقحط كما هو تقريبا ، من هنا نبعت قدرة العراق على تكييف من يأتيه من الريف او البادية وتحويله الى مديني خصوصا عندما تكون الدولة العراقية قوية ومسيطرة ، وهنا نجد السبب الرئيس في صلابة الارادة العراقيه مقابل ضعف الارادة البدوية الثرية .

26- وأهم ما عزز هذا الفرق بين ثراء وثراء اخر هو ان المال في العراق لم يسخر لخدمه عوائل وفئات قليلة بل سخر عموما لخدمة المجتمع والشعب والدوله وهو ماعزز التقاليد الايجابية لدى الشعب وبقاها حية بينما البدوي احتكر المال هو وعائلته ومحيطه فأدى ذلك الى تحلل فئات وافسادها وانتقل التأثير الى كتل اجتماعية ليست بالصغيرة لان من يسيطر على الثروة يسخرها لتطبيع الاخرين مع قيمه الجديدة المتناقضة مع قيم البداوة والريف الاصلية اي مع قيم الانصاف والعدل ، ولهذا فان ضمير هذا الجزء من البدو والريفيين اصيب بعطب اخلاقي شديد التأثير وبرز الضعف في ارادته وفي مقدمة تجسيدات ذلك التغيير السلبي هو هيمنة انتقائيه الضمير عليه والذي جعله يتحيز للامتيازات المادية على حساب تقاليد الفروسيه والاخلاص والوطنية والدين وحتى العائلة اذ شاهدنا كيف يقوم الاخ بتصفية شقيقه جسديا وبلا رحمة والابن يقتل والده بلا تردد من اجل المال والنفوذ في سحق مباشر لواحدة من اهم تقاليد البدو والريفيين وهي النزعة الابوية والتلاحم الاسري والعشائري .

27- هذا النمط من التفكير تتحكم فيه تقاليد هوامش البدو بينما العقل العراقي تتحكم فيه تقاليد البدو الايجابيه مضاف لها وبتفاعل ديالكتيكي تقاليد الحضر فاكتسب العراق عبر التاريخ افضل ايجابيات تقاليد البدو ومنها هي الفروسيه والوفاء والنزعة الابوية والتي دعمت التلاحم الوطني وعززته ، وافضل تقاليد الحضر وهي التخطيط وبعد النظر والنظرة الوطنية بدل النزعة العشائرية ، وهكذا يثبت التاريخ والواقع المعاش بأن تفاعلات القيم والتقاليد المختلفة في المجتمعات والامم ينتج اشكالا متناقضه من القيم والسمات تتحكم في الكتل البشريه أُمما ودولا وتشق لها طريقا خاصا في التطور ، فالعراقي هو نفسه البدوي من حيث التكوين الجيني والتراثي لكن الفرق بينه وبين بدوي اخر أصابه ثراء فجائي صنعته التطورات التاريخيه المتباينة فترسحت في العراقي افضل سمات البدو والريفيين مندمجة مع افضل سمات الحضر والمدن بينما ترسخت في البدوي الاخر السمات السلبية للبداوة والريف واضيفت اليهما أسوا تقاليد ومؤثرات المدنية الغربية وهي الانانية المفرطة .... يتبع .

Almukhtar44@gmail.com

15-5-2019

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page