top of page

الرفيق المجاهد صلاح المختار - نقد نظرية ترييف المدينة - الحلقة العاشرة ( الأخيرة )


نقد نظرية ترييف المدينة

- الحلقة العاشرة -



28 - أين نجد جذور كوارثنا وأزماتنا الحالية ؟ ، هل هي نتاج عاداتنا البدوية والريفية أم أنها ثمرة لمخططات معادية ؟ ، يمكن أن نرى الجذور بسهولة في خطط الغرب من خطة بنرمان إلى ما يسمى الآن صفقة القرن والتي هي مرحلة من مراحل تنفيذ مقررات المؤتمر الصهيوني الأول (1897) وخطة بنرمان في عام (1905) ، وكانت أيضاً تستبطن تنفيذ خطط متعددة تحدث تغييرات عميقة نفسية واجتماعية واقتصادية واستراتيجية ... الخ ، إعداداً لمراحل قادمه يتحكم الغرب في مسارها لأجل الحصول على نتائج اجتماعية واقتصادية ونفسية .. الخ ، تخدم الهدف الاستعماري .

كانت حدود " سايكس بيكو " مبنية بالأساس على حرمان كتل الحضارة كسوريا ومصر من الثروات المكتشفة رغم أن سكانها يعدون بعشرات الملايين وحصرها بيد عناصر بدوية رغم أنها قليلة العدد ، وهذا التقسيم صارت له آثار خطيرة سياسية ونفسية واقتصادية وعسكرية وغيرها لأن تركز الثروات بيد فئة قليلة العدد ومحدودة الوعي الحضري مقابل حرمان الأغلبية الساحقة منها رغم أنها ضخمة العدد وتمثل الوعي الحضري ومعاناتهم من الفقر يخلق هوة عميقة في التطور ويضعف الرابطة القومية بين هؤلاء جميعاً .

ونظرة لحالنا الآن ترينا أن الهدف الاستعماري قد تحقق ، وهو تمسك من حصل على الثروات بها وجعل ذلك قضية حياة أو موت حتى أن وقع الخلاف مع الشقيق أو الابن ! ، أما العراق فلم يكن بالإمكان تغيير مكان شعبه فبقى النفط وبقية الثروات العراقية والشعب في نفس المنطقة ولهذا تغير تطور العراق بصورة مناقضة لتطور دول الخليج ولدول الحضارة مثل مصر وسوريا وغيرهما ، هذا أحد الأهداف الجوهرية المتعمدة لسايكس بيكو .

تخيلوا لو أن بريطانيا وفرنسا أوفتا بوعود سايكس بيكو بالمساعدة على إعلان دولة عربية واحدة ، ألم يكن تطور الوطن العربي مختلفاً نوعياً لأن الثراء العربي القديم والثروة الجديدة الآتية من النفط كانت ستسخر لخدمة دولة عربية واحدة كبيرة عصرية توفر العدالة الاجتماعية لشعبها كله وليس لعدد منه .

29 - وتقرر أيضاً إعداد بلاد فارس لتكون المكمل للدور الصهيوني في فلسطين فيوضع العرب بين المطرقة الصهيونية والسندان الفارسي ، ولتحقيق ذلك نفذ قرار الغرب بضم الأحواز الغنية بالنفط والأرض الزراعية والماء لبلاد فارس لإكمال متطلبات تحولها إلى قوة إقليمية عظمى تستطيع استنزاف العرب ومنع نهضتهم فتحمي الكيان المقرر إقامته في فلسطين لأن بلاد فارس كانت تفتقر للماء والأرض الزراعية .

30 - إذا كانت نظرية ترييف المدينة خاطئة ومضللة ومن أسلحة الغرب والصهيونية ضد حركة التحرر العربية ، أين تكمن المشكلة ؟ ، المشكلة نجد أصولها في الطبيعة البشرية التي نميت بتأثير تحولات سلبية وازدادت سلبياتها عندما تعرضت لتأثيرات خارجية نفسية وعقلية واجتماعية واقتصادية وهو ما قامت به أوروبا الاستعمارية وأمريكا للتأثير في العقل البشري ، فالعقل البشري بقدر ما هو هبة إلاهية عظيمة فإنه شيطان قادر على خداع الذات التي ينتمي إليها أولاً وخداع الآخرين ثانياً ، فمن لا يستطيع خداع نفسه لا يستطيع خداع الآخرين ، لذلك يستطيع العقل في حالة انحرافه بالتأثيرات الاصطناعية أن يتوج أنانيته المتوحشة بتطرف امبراطور مطلق الحقوق ، يستخدم صلاحياته في تحليل وتحريم كل شيء حتى وإن بدا متواضعاً وديمقراطياً ومتحضراً كالغرب ، هنا تكمن عبقرية الفعل وشيطانيته في آن واحد .

يتميز الإنسان عن باقي الحيوانات بوجود ضمير زئبقي لديه يمكن خداعه بمحاكمات منطقية ذكية يقوم بها عقل الشخص ذاته أو حينما يوضع تحت اختبار خارجي لذلك نراه يتميز عن باقي المخلوقات الحيوانية بأنه الأقدر على ارتكاب جرائم بشعه لم نسمع أن أي حيوان قام بها ، تماماً مثلما يمتلك القدرة على تقديم انجازات عبقرية مذهلة كما نرى في عصر الانترنيت والجينات ، ويستطيع بلورة سمو أخلاقي رفيع كما رأيناه في الرسل محمد وموسى وعيسى ، عليهم السلام ، وغيرهم مع أنه هو نفس الإنسان ! ، وهنا تكمن أبرز المفارقات في الطبع البشري : ففي عصر أرقى أنواع التقدم العلمي - التكنولوجي والمدنية ارتُكبت أبشع الجرائم غير المسبوقة في التاريخ البشري ومن يرتكبها هو الغربي المتمدن وليس البدوي المتخلف .

الغرب صنع مدنية مزدوجة الطبيعة : فهي الأرقى تكنولوجياً وعلمياً ومدنياً لكنها بنفس الوقت الأقوى تعبيراً عن أكثر الغرائز البشرية أنانية ووحشية وإصراراً على تدمير الآخرين بلا رحمة ! ، وفلسفة الغرب الطاغية هي أن من يمتلك القوة يمتلك الحق ويحدد ما هو الحق وما هو نقيضه ، ولهذا نرى أن البشرية قد دخلت أخطر أطوار حياتها حيث تدهورت القيم العليا واحتقرت القوانين التي وضعها الغرب لنهب العالم ! .

31 - ومن يظن بأن أمريكا الشمالية وبعض أوروبا يمارسان هذا السلوك التدميري تجاه العالم الثالث فقط واهم ، فالغربيون مارسوا القتل والنهب والإبادة مع مواطنيهم فقد استغلوهم أبشع استغلال من أجل تكديس الثروات عند فئة محدودة في عهدي الاقطاع والراسمالية ، وعندما احتكروا الوطن التفتوا لأوربيين آخرين لنهب ثرواتهم أو لمنعهم من الاستحواذ على ثروات العالم الثالث ، فكانت الحربين العالميتين الأولى والثانية تعبير طبيعي عن نزعة النهب الغربية المنفلتة من أي رادع مثلما كانتا تعبيراً صادماً لوجود سلوك لا عقلاني مدمر ، والمهم هنا هو أنهما لم تكونا من فعل بدو أو ريفيين لأنهم كانوا من ضحاياهما .

32 - ومن دراساتي الطويلة ومن تجربة عيشي في الغرب ( في أمريكا وأوربا ) حوالي 13 عاماً توصلت إلى أن قيم الحضارة الغربية وإن تميزت ظاهرياً بلطف وتمسك بما تعلمه الفرد في المدرسة من الانضباط وفقاً للقوانين لكنها وباء سرطاني ضخّم بذورالأنانية ونوّم الضمير جزئياً أو كلياً وحسب الناس ، واستبدله بشيطان اسمه ( الأنا ) لا يرحم ، بل يتلذذ بقتل الضحايا الأبرياء ! ، فهدم الإنسان كل ما بناه ، ورفع تلك الطقوس الوحشية إلى حالات التقديس تمارس بواسطة أكبر وسائل الخداع ، فالغرب المتمدن يقدس الحقوق الثانوية مثل حقوق الإنسان لكنه يحقّر عمداً حقوقاً أهم منها بكثير لأنه بدونها يموت وتنتفي الحاجة للحقوق الثانوية تلك هي الحقوق الأساسية لأي إنسان وفي مقدمتها الحياة الكريمة والتي لا تكون كريمة إلا بتوفير الدولة للحاجات الأساسية كالطعام والسكن والخدمات والتعليم والطب المجانيين وحرية الاعتقاد والتعبير وقبلها الاستقلال الوطني والمحافظة على الهوية القومية ، وهي الحقوق التي حرمنا الغرب منها .

ولو قورنت أعمال الغرب بغزوات بدو جائعين متخلفين ثقافياً لوجدنا أن البدوي أكثر إنسانية بما لا يقاس من الغربي ، فهو لا يطمح إلا بسرقة ما يستطيع به المحافظة على حياته وحياة أسرته ، لكن الغربي المتحضر يسرق ويتعمد قتل من يجده أثناء السرقة ويمارس أبشع أنواع الجرائم وهو يشن عواصف الحقد رغم أنه متخم وكدس ثراء يفوق حاجة عشرات الملايين مثله ! ، ذاكرة الشعب في العراق وفلسطين وسوريا والجزائر تعرف كل ذلك مدعومة بما في متاحف التعذيب وأساليب القتل الغربية الموجودة في لندن وباريس وغيرهما والتي خصصت لعرض أدوات التعذيب في أوربا ورؤوس من اعدموا من العرب ، وهي تثبت أن أبشع أنواع الإرهاب وأكثر أساليب التعذيب وحشية وسادية هي تلك التي مارستها أوروبا المتمدنة في عصر الاستعمار وتفوقت عليها أمريكا بمراحل كثيرة ، ولم تذكر أحداث التاريخ ولا وشواهد الحاضر أن البدو أو الريفيين ارتكبوا مجازر جماعية أو قتل الآخر بدون وجود الحاجة ، وعندما فعلوا ذلك كان محدوداً زمنياً وعددياً ، وما يؤكد الطابع الهمجي لأوربا وأمريكا أنهما ترفضان الاعتذار للعراق والجزائر وفلسطين وسوريا وغيرها عن جرائمهما رغم الاعتراف بها في تعبير هو الأبشع عن نزعة تخلف أخلاقي ! .

34 - تؤكد الأحداث والوثائق المتاحة بأن العامل الحاسم في الهجرة من الريف للمدينة في الوطن العربي خصوصاً وفي العالم الثالث عموماً كان المخططات الغربية التي نمّت عمداً أو زرعت عوامل الفساد في بنية الريف والبادية وجعلت تقاليدهما تربك تقاليد المدينة وتضعفها نتيجة الضغوط والحروب التي فرضتها أو كثمرة لفرض أنظمة مستبدة فاسدة ضخمت سلبيات البداوة والريف وأدى ذلك إلى فقدان بوصلة التوجه فتكرس التخلف وزاد وتعمق مع سلبياته ، ولو تركت تلك الكتل البشرية تتطور وفقاً لآلياتها الخاصة لما تقّوت تلك الظواهر وأصبحت عوامل كبح لانطلاقة التطور البشري .

ومن يريد معرفة حقيقة نظرية ترييف المدينة عليه أن يدرس ما جرى في العراق وقبله في مصر ، فالعراق في عهد البعث ، وأغلب قادته من الريف والبدو ، ومصر في عهد عبد الناصر ، وهو من الريف ، تعرضا لضغوطات خطيرة غير محتملة كالحروب والحصارات والمقاطعة والعقوبات وتخريب المخابرات مما أدى إلى اختلال توازن عمليات التنمية وفشل جوانب منها أو عدم تحقيق الخطوات المرسومة ، وهي تنمية شاملة بشرية واجتماعية حضرية راقية ومن وضعها ونفذها أبناء ريف وبدو في القطرين ، ولهذا فإن أول نقد للتخلف في العالم الثالث يجب أن يوجه للتدخلات الاستعمارية الأوربية والامبريالية الأمريكية وللكيان الذي زرعاه وهو إسرائيل الغربية التي احتلت فلسطين وتحولت إلى أداة إقلاق اجتماعياً ونفسياً واقتصادياً وأمنياً للعرب ، مثلما شجع الغرب إيران لتصبح إسرائيل الشرقية المكلمة لدور إسرائيل الغربية لوضع العرب بين المطرقة الصهيونية والسندان الإيراني ، فيصبح تلقائياً الحفاظ على وجودهم أسبق من التنمية والتقدم في سلم ترتيب الأولويات .

لقد أكدت تقارير الأمم المتحدة في القرن الماضي بأن التطور الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي وغيره يجعل العراق يتقدم بقوة ليحتل موقع الدولة المصنفة مع الدول المتقدمة ، ولكن علينا التساؤل : مَن أعاد العراق لعصور الخرافة والأمية والفساد والتشرذم وكافة أنواع الشذوذ ؟ ، هل تقاليد الريف والبدو هي التي فعلت ذلك رغم أن القادة الذين حققوا تلك النهضة كانوا بغالبيتهم من أبناء الريف والبدو ؟ ، أم الغزو الأمريكي والذي ساهمت فيه الإسرائيليتين الغربية والشرقية وتولتا تنفيذ عمليات إكمال تدمير المجتمع بالفتن الطائفية والعنصرية على أن يقترن ذلك بتدمير كل منجزات العراق في الزراعة والصناعة والتعليم والصحة وبناء الإنسان الجديد والتي جعلته موضع إعجاب العالم ؟ .

35 - الغرب وخبراءه ركزوا على سلبيات البدو وأخفوا عمداً إيجابياتهم وطمر عمداً أيضاً دور الغرب في الإفساد المنظم لشرائح من البدو بتسليمهم أغلب الثروات ، مثلما تجاهل الغرب عمداً أن قطاع الطرق والطفيليون موجودون كل مكان وزمان ، فلِمَ هذا التركيز على البدو العرب وترك بقية بدو العالم ؟ .


الخلاصة الجوهرية : أن من أخطر أساليب التضليل الغربية لإخفاء جرائم الغرب المتمدن هي اختلاق تفسيرات زائفة حول الجرائم الكبرى لإخفاء الفاعل الحقيقي واتهام الضحايا بأنهم السبب ومن ضمن تلك الأساليب نظرية ترييف المدينة والتي وضعت أصلاً لإخفاء الدور الغربي في تدمير دولنا وتهديم قيمنا ومنعنا من النهوض والتحرر وإبقاءنا أسرى جدل عقيم حول أسباب تخلفنا مع أنها واضحة ، وإلقاء المسؤولية على عاتق من حقق النهضة العصرية فعلاً ، والمثال العراقي يقدم لنا دليلاً حاسماً يثبت ذلك .

تذكروا أن أبطال النهضة العربية الحديثة والتي اغتيلت كانوا من أبناء الريف والبادية ومنهم جمال عبد الناصر وصدام حسين ورفاقهما وكان هؤلاء أقوياء جداً بفضل التقاليد الإيجابية للريف والبادية وفي مقدمتها الفروسية والنقاء وصلابة الإرادة الحرة ، وتذكروا بلا نسيان أن من اغتال نهضة العرب في مصر والعراق وغيرهما هي المخططات المعادية وليس الأخطاء الداخلية .

- انتهت الدراسة -

Almukhtar44@gmail.com

28-5-2019

Comentarios


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page