الرفيق المجاهد صلاح المختار - تسليع الإنسان ، سرطان القوى العظمى
- مفكر قومي
- Nov 8, 2019
- 7 min read

تسليع الإنسان سرطان القوى العظمى
ليس ثمة شك في ان مرحلة العيش في ظل الرأسمالية،خصوصا الامريكية ، والاشتراكية ، خصوصا السوفيتية ، والنازية في المانيا كانت من اخصب مراحل التاريخ البشري حيث انها كشفت عن الغاز الطبيعة البشرية الغامضة ومنها الجهل شبه التام بذات الانسان وامكانيات تطورها ، وابرز الدروس المستخلصة من تلك التجارب متعلق بمفهوم الحرية ، وهنا نرى التناقض الحاد بين مفهوم الحرية وبين تطبيقاته المتعددة تحت ظل انظمة مختلفة .
سنتناول الان مفهوم الرأسمالية للحرية وكيفية تعريضها الانسان الى عبودية شاملة :
1- في بدايتها اعتمدت الراسماليه في الغرب شعارا معروفا وهو( دعه يمر دعه يعمل ) وهو يعبر عن الحاجة لاطلاق الحرية الاقتصادية ، فتسابق الافراد في مجال الابداع لانها اعتمدت على تنميه الحوافز المادية وجعلتها المحرك الرئيس للانسان ، فكانت تلك الحوافز هي المحركة للفرد والجماعه في مجتمعات ليس فيها ضمانات حياتية وامنية وعلى الفرد ان يوفر كل شيء بنفسه والا يموت جوعا او مرضا .
ونمت الحريات العامة وظهر الاعلام الحر ووضعت القوانين الضامنة للحريات وحقوق الافراد في الرأسمالية التنافسية ، والسبب هو انها كانت فتية وتحتاج لكل ما يغري ، وكانت الحريات وحقوق الافراد اهم شعارات واهداف الثورة ضد الاقطاع مثل الثورة الفرنسية التي كان شعارها ( حرية اخاء مساواة ) ، وكان الهدف الرئيس لتبني هذا الشعار هو ان ترسخ الرأسمالية ذاتها وتقيم مؤسساتها االداعمة لها كي تبني ثقافات وانماط سلوك فردية واجتماعية مرغوبة ، ومنها الجامعات والاعلام وحتى بعض اوجه الطب .
2- ترسخ اركان الراسماليه انهى التنافس وانتج الاحتكار ومع تعاظم هذه العملية اخذت الليبرالية تحاصر فتحول شعار الحرية من اطاره الاجتماعي العام المفتوح، خصوصا الاقتصادي والذي كان الدافع الاول للثورة ضد الاستبداد الاقطاعي ، الى شعار ( خصوصيتي فوق كل شيء ) ، اي ان الحرية صارت ممارسة فردية منغلقة على الذات برشوة الانسان بحريات فردية داخلية مقابل حرمانه من حرياته العامة خصوصا حقه في تقرير نمط النظام الاقتصادي ، فتحول الانسان الاجتماعي بطبعه الى جزر منعزلة كل في خصوصيته ، فجردت الرأسمالية الحرية من طابعها الاجتماعي ، وبالتبعية تفككت قوة الجذب الاجتماعي التلقائية وصارت لحمة المجتمع تقررها المصالح الفردية وتتحكم بها ضرورات عملية الانتاج الرأسمالي .
وهكذا صارت حريات الفرد تعني خياراته في حياته الخاصة وضمانها وليس الحرية المفتوحة على المجتمع والمعززة لتلاحمه ، واصبحت الحرية هي فعل الفرد كل ما يعتقد انه نافع له ويخدمه بشرط ان لايؤذي الاخرين ، بينما تقلصت القدرة على الضغط على الاستغلال الرأسمالي لان الراسمالية امتلكت زمام الحرية المطلقة واحتكرته بمؤسساتها القوية ، فظهرت اشكالية نظام رأسمالي يحتكر ممارسة الحرية المطلقة في استغلال الاخرين بينما جردت الملايين المستغلة من امكانية ممارسة حرية كافية لانهاء الاستغلال ! .
3- ترسخت مؤسسات راسمالية ظاهرية وباطنية تتحكم بالنظام الاقتصادي والدولة ( رئيسا وبرلمانا واعلاما ...الخ ) ، وزاد ذلك من تقليص حريات الفرد العامة واجبرته على التعويض بتوسيع نطاق حريته الخاصة فلكي يمارس الحرية توغل في مجاهيل الذات وهي المجال المسموح له بممارسة الحرية فيه ، بل واخذت الراسمالية تنفذ خططا مدروسة لدفع الانسان نحو الانحراف عن تقاليده وقيمه الاخلاقية تحت غطاء اطلاق الحرية التامة للفرد كي يمارس ما يريد ! ، وهكذا ظهرت في المجتمعات الرأسمالية امراض الاغتراب والانانية المتطرفة لدرجة الاباحة القانونية لما كان محرما وهو الشذوذ في مجالات عديدة منها التصرفات الفردية والجنسية ، والاخيرة وصلت حدا منافيا لطبيعة الانسان وهو الزواج قانونيا بين شاذين في بعض بلدان الغرب والاغرب هو وصول الشذوذ مستوى صادما بزواجات رسمية وان كانت قليلة بالحيوانات ! .
4- وكان ذلك التطور احد اهم وسائل عزل الفرد عن التأثير على اسس النظام الراسمالي بأشغاله بنزواته الفردية المتاحة بحرية مفتوحة كمجال تنفيس وحيد للفرد المحاصر فأخذت الحريات الخاصة اخذت تتسع بقدر تقلص حريته في التأثير على نمط الانتاج الرأسمالي ، فللفرد الحرية كل الحرية في التصرف بجسده وعقله بشرط عدم مخالفة قبضة القانون الحافظ للنظام الرأسمالي! وكانت النتيجة مروعة : فقد تغذت الانانية من معين الحريات الخاصة المسموح بها وصار المجتمع المتقدم يعيش تناقضا مدمرا للذات الانسانية بين نظام متوحش وتزداد وحشيته كلما تقدم وبين نزعات فردية تحلم بعالم بلا قيود لكنها تواجه واقع انها عاجزة وعليها ممارسة حريات خاصة فقط، فأخذ الانسان يزداد انانية ووحشية ولا مبالاة .
5- بأسم الحرية ، والتي بقيت شعارا للرأسمالية حتى بعد ان قتلتها ، انتجت الرأسمالية وحشية غير مسبوقة في التاريخ الانساني حولت البشر الى مجرد ادوات نهب ومراكمة ثروات ولم يعد لدى الرأسمالي من رادع يمنعه من الاقدام على اي خطوة تضمن مواصلة استغلاله بما في ذلك اشعال حروب ابادة الملايين وتلفيق الاسباب لشنها ، وتلويث البيئة ونشر الامراض عمدا ومنع استخدام اختراعات او اكتشافات طبية تقضي عليها كي تبقى الشركات الاحتكارية للدواء تربح .
6- ومن مظاهر الرأسمالية في مرحلة شيخوختها انها حولت رموز الدولة الى ادوات تنفيس للجماهير فلم يعد هناك مقدس وزالت حرمة رموز الدولة كالرئيس واعضاء البرلمان – الكونغرس - واصبحت السخرية باي شخص وجماعة حق قانوني ، والان نرى اعلى مراحل تحقير اكبر رمز للدولة وهو ترامب والذي يتعرض للسخرية في وسائل التواصل الاعلامية فيشتم ويرد الشتائم بنزق طفولي في ممارسة لاتدل الا على انحطاط الرأسمالية وتسليعها لكل شيء ونزع القدسية والاحترام من اي شخص وديانة ، وكل ذلك هدفه اشغال الفرد بممارسة حرية النقد والسخرية بدل حرية تغيير النظام الانتاجي وتنفيس الضغوط المتراكمة داخله .
7- وكان اخطر ما دخلنا فيه مع التقدم العلمي الهائل هو تحويل الانسان الى اداة اختبار ، فكما تستخدم الحيوانات في مختبرات التجارب العلمية كقارض صغير اسمه خنزير غينيا (Guinea Pig) فان الرأسمالية حولت الانسان ذاته الى اداة مختبرية فأثرت في سلوكه وتدخلت في جيناته وتكوينه الطبيعي من اجل زيادة السيطرة عليه والتحكم في سلوكه خصوصا الاستهلاكي ! ، وهكذا انتجت الراسمالية وليس الاشتراكية النظام الاكثر شمولية في تاريخ البشر ، فلئن كانت اشتراكية ستالين تتحكم بالفرد والمجتمع من خارجهما فان الراسمالية خصوصا الامريكية تتحكم بالفرد والمجتمع من خارجه ومن داخله بواسطة ادواتها الحديثة كالانترنيت ومنتجات الثورة الرقمية كالموبايل والادوات المنزلية المصنوعة لجمع المعلومات عن الفرد وهو في غرفة نومه او على مائدة الطعام ، والاكثر خطر هو ان عصرنا يشهد التلاعب بجينات الانسان وخياراته وحتى شكله ! ، فلم يبقى للانسان الا الانسياق وراء غريزة البقاء ! .
8- ازمة البشرية الحالية الاخطر يمكن رؤية جذورها في ازدواجية مفهوم وتطبيقات الحرية في الرأسمالية فهي تستغل الملايين وتسلبهم حرية الحصول على مردود عملهم الطبيعي ، وتفتح كافة ابواب التسابق الاناني المجرد من اي قيم اخلاقية او انسانية عندما تحرمه من ضمان عيشه غدا وتجعله قلقا يفكر بغده اكثر مما يفكر بأي امر اخر، فتتكون مجتمعات مختلة التوازن تتحكم بها حوافز ومحركات متناقضة تربك الوعي الانساني وتجبره على التمحور حول ضمان الغد من زاوية تدبير عيشه اولا ، وتفتقت المجتمعات عن عدد لاحصر له من النزعات السلبية كالكذب والتأمر والتفكك الاجتماعي والضعف الشديد للروح التضامنية ، فتحول المجتمع الى مجموعة من الناس يعيشون في مدينة واحدة لكن كل منهم عالم منعزل بذاته ويخشى الاخر او لايرتاح اليه .
9- المجتمعات الرأسمالية المتطورة كامريكا حرة بدستورها وقوانينها لكنها تضع النخب المثقفة امام تحد كبير هو انها ورغم اكتشافها للخل البنيوي في المجتمع ونظامه الانتاجي الا انها عاجزة عن تغييره بسبب هيمنة رأس المال على المؤسسات المتحكمة كالكونغرس والرئاسة والاعلام وتكييف القوانين لخدمته ، واحد اهم الامثلة مثال من يفوز في الانتخابات الرئاسية والكونغرس وحكام الولايات فليس ممكنا لمن لا يملك المال ان يفوز في الانتخابات حتى لو كان عبقريا ومفكرا مثل المفكر الامريكي تشومسكي بينما يستطيع ذلك من يمتلك المال حتى ولو كان غبيا ومتخلفا واحمقا مثل بوش الصغير وترامب .
10- ننتقل الان الى احد نتائج التربية الرأسمالية وهو الاستعباد الشامل والاخطر في التاريخ للانسان لانه يحوله الى رقم لاحول له ولا قوة في عالم رقمي قسره يكتشف ما ان نبدأ بالتلذذ بمنتجاته ! ، وهو يفضي الى العبودية التي تبدو اختيارية لكنها في الواقع جبرية،تسليع الانسان اولا وقبل كل شيء وهو عملية تحويل الانسان الى مجرد شيء مثل باقي الاشياء في حياتنا كالتلفون والثلاجة ، لننتهي الى عصر نهدد فيه بالتحول الى اسرى وربما ضحايا الذكاء الاصطناعي المتسارع في سيطرته على العالم رغما عنا ايضا .
11- في الملاحظات السابقة لاحظنا انه عندما بدأت الرأسمالية بتسليع الانسان كوسيلة مؤقتة تحولت اللعبة التكتيكية في التجارة الى ممارسة ستراتيحية دائمة ومتوسعة تلتهم حتى من اوجدها ونماها ، فكل الية تصنع وتكتمل وتعمل بفاعلية تبدأ بامتلاك خصوصيتها التي تجر صانعها الى الخضوع لها، وهذا ما حصل في الرأسمالية التي ابتدأت ليبرالية ( دعه يعمل دعه يمر ) من اجل توفير الحافز المادي القوي للانسان كي يكتسب العلم والتجارب والقدرات الانتاجية، لكنها تحولت الى وحش شمولي سيطر بقوة نفس هذه الالية عندما وصلت مرحلة تكامل اركان اتمتتها ( عملها التلقائي ) ، فغيرت ما كان عامل تكتيكا مرحليا وهو القسر الى وسيلة اشباع لنزعات غريزية غامضة جعلت الانسان الوحش الاكثر قسوة من اي مخلوق اخر ! .
ومما عزز تسليع الانسان هو ان امريكا عانت من خلل بنيوي اخذ ينخر في بنيتها فهذا البلد عبارة عن شركه كبرى ولم يكن يوما ما امة متكونه بل مستوطنين هاجروا من اوروبا ومن غيرها للعمل في هذه الشركه وبسبب ثراء القاره الجديده نجحت الشركه واطلقت عليها صفه الدوله ونمت وصارت اقوى قوه عسكريه انشأت لحمايه الشركه ، ورغم مرور اكثر من قرنين الا ان عمال هذه الشركه لم يمتلكوا هويه مشتركة تقوم عليها امة جديدة فحصل خلل بنيوي : ففي حين ان الشركه صار تشبه دوله منظمة وقويه الا ان شرط الهويه لم يتوفر وبقى العمال منتمين لهويات ثقافية مختلفه تمثل اصولهم القوميه والدينية فصارت امريكا عملاقا جبارا ما يربط افراده المصلحه الشخصيه والتي تقرر خيارات الفرد ونمط حياته، وهذا الخلل البنيوي جعل امريكا عملاق من فخار بقدر ما هو صلب فهو قابل للكسر السهل وهذا ما اثبتته حربي فيتنام والعراق، حيث هزمت المقاومة الفيتنامية والعراقية امريكا .
الانسان في امريكا قادر على شتم الرئيس واهانته لكنه عاجز عن انهاء الاستغلال الرأسمالي ، ففقد الامريكي الشعور بالانتماء لهوية ، الراسماليه حولت الانسان الى روبوت يعمل طبقا لقواعد تناقض غالبا مشاعره ورغباته الفرديه والتي صارت رغم انها من صنع النظام الراسمالي احدى ادوات تدميره .
والمفارقة الاكثر دلالة على عبودية الرأسمالية وانها النظام الاكثر شمولية في التاريخ البشري هي انها بعد ان جردت الانسان من حرية تقرير مصيرة ونظامه الاقتصادي وقدمت له رشا مغرية وهي الحرية الذاتية ورطته في ممارسات مميتة وهي التمتع بجسده وبقوة عقله والعيش في اغتراب ووحدة مطلقتين رغم انه يعيش وسط الملايين ، والمفارقة ان الانسان يكتشف في النهاية انه حتى تلك الرشا ، وهي الحريات الذاتية ، كانت تقييدا له بقوة الشذوذ عن الاصول الطبيعية فهي تقليص اشد تدميرا لحريته ، وهنا تمكن ازمة حرية الانسان المعاصر في الغرب الرأسمالي : فهو مجرد مسمار ولا يستطيع حتى التحكم في عقله وجسده .
Almukhtar44@gmail.com
16-10-2019
Comments