top of page

بوتينيا ، مقال للرفيق المجاهد صلاح المختار



بوتينيا



ضربة ثلاثي الغرب ( أمريكا ، بريطانيا وفرنسا ) لسوريا تفرض توسيع نطاق فهمنا لما يجري حولنا وداخلنا ، فالعوامل النفسية في تقرير القيام بالضربة درست بالتفصيل مسبقاَ وكانت موضع اهتمام المتفرغين للعمل المخابراتي الذين حاولوا معرفة رد فعل الرئيس الروسي بوتين على القيام بالضربة في أجواء شحنت بسيادة النمط الدبي من الصراع ، أي نفخ الدب الروسي لنفسه أمام الضبع الأمريكي كي يبدو أكبر وأقوى ويخيف الضبع الأمريكي صاحب أقوى فك عند العض طبقاً لتجربتنا مع عضاته .

بوتين أطلق تصريحات قوية ومارس أساليب أثبتت أنه جاد وينفذ وعوده !في الحرب الباردة الجديدة ، بوتين هو الشخصية المحورية لأن رؤوساء أمريكا وعموم الغرب مدراء يذهبون مع الانتخابات بينما بوتين قائد نصف شرقي - نصف أوربي جمع بين استبدادية الشرق وبراغماتية الغرب فظهرت شخصية قوية وصلبة في عصر جرت فيه تصفيات القادة الأقوياء ، وكان آخرهم القائد الشهيد صدام . ومع صعود بوتين تغير مسار العلاقات الروسية - الغربية ، فالغرب الذي اعتبر أن تفكك الاتحاد السوفيتي سوف يؤدي لاحقاً إلى تفكيك روسيا الاتحادية وإلحاق ما يتبقى منها بالغرب كتابع ، فوجئ بل صُدم بتحول بوتين من مستغرب – بعكس مستشرق - أتقن فنون العلاقات العامة الغربية ومارسها إلى قائد عنيد خلخل مخططات أمريكا العالمية وأخذ يهدد بإفشالها ! .

ولو درسنا الاستراتيجية الأمريكية في عهد ترامب لرأينا أن روسيا بقيادة بوتين هي العدو المباشر فيما الصين هي العدو الأخطر القادم بسرعة لإزاحة أمريكا من عرش عالم شبه أحادي القطبية ، فبوتين يحقق تقدماً في إزاحة أمريكا عن عرشها بقوته العسكرية وتقدمه السايبراني والتكنولوجي العام ، بينما الصين تتقدم في كل المجالات خصوصاً الاقتصادية وتستعد لتجلس على قمة العالم خلال عقود قليلة وربما سنوات ، ولئن كانت الصين تعمل بحكمة الشرق التي تعد الصمت وقلة الكلمات ضرورة فإن روسيا بوتين تعمل بلغة الغرب القائمة على استعراض القوة .

وكما مع كل قائد خطر من وجهة أمريكا فإن مخابراتها تعد شخصاً داخل مخابراتها ليقوم بدور ذلك القائد فيتفرغ لدراسة شخصيته بالتفاصيل وينادى عليه باسم الشخصية التي يتقمصها لأجل فهم محركاتها الخفية ، فإن المخابرات الأمريكية صنعت بوتينها المخابراتي وأخذ هذا البوتين وهو متفرغ تماماً لمعرفة بوتين الروسي يجمع كل شيء عن بوتين ويقلده ، وهذا يذكرنا بوجود جمال عبد الناصر داخل المخابرات الأمريكية كان يمثل شخصية القائد الراحل جمال عبد الناصر لأنه هدد بإنهاء عصر الاستعمار الغربي ، كما يذكرنا بصدام حسين المخابرات الأمريكية والذي كلف بالتحقيق مع القائد الأسير صدام بعد غزو العراق واسمه جون نيكسون وألف كتاباً عن ذلك .

إذاً ، هناك بوتين أمريكي يدرس بوتين الروسي كل دقيقة ويقلده بلبسه وهواياته وطريقة كلامه وينادى من قبل رؤوساء باسم بوتين ، هذه توضيحات مهمة جداً للوصول إلى فهم مشترك لكيفية تعامل الغرب مع الرئيس بوتين ، وهو شخصية تتمتع بكاريزما بدون شك ، وهي كاريزما لم يتمتع بها أي زعيم سوفيتي منذ ستالين ، ومن بين أبرز صفاته هيمنة نمط التفكير المخابراتي عليه والهدوء والإصرار وعدم الاكتراث بالمخاطر إذا كان ذلك يخدم هدفه الرئيس ، وبهذه القدرات أراد جعل روسيا مكافئة لأمريكا وشريكة لها في قيادة العالم .

فكيف استخدمت المخابرات الأمريكية معلوماتها عن بوتين قبل توجيه الضربة ؟ ، في أجواء إدراك أمريكي أن بوتين لن يتردد في الرد بقوة وهو ما قد يجر أمريكا إلى كارثتين كل منهما أسوأ من الأخرى :

فأما أن يرد بصورة شاملة وتنشب حرب عالمية تقليدية وهي كارثة للجميع ، أو يواجه العالم كارثة أخطر وهي اندلاع الحرب النووية لأن الحرب ما أن ترسخ جذورها حتى تبدأ بفرض قوانينها الداخلية وتجر قادتها إلى ما لم يريدونه ، وبما أن أمريكا لا تستطيع خوض أو تحمل نتائج حرب عالمية فإنها توصلت كما نعتقد إلى ما يلي :

1- قررت المخابرات الأمريكية هز ، إن لم يكن ممكنا تحطيم ، صورة بوتين القوي الذي لا يتراجع وإذا نجحت العملية فإن بوتين سوف يتعرض لفقدان شعبيته داخل روسيا وتتعزز إمكانية خسارته في الانتخابات لصالح شخص موال للغرب وهذا هدف جوهري .

2- ولأنها تدرك أيضاً أن شخصية بوتين لا تسمح بذلك ، قررت أن تنفذ خطة ( أجرح وداوي ) فهز صورة بوتين اقترن بالرغبة في تخفيف رد فعله الغاضب والقوي عن طريق تجنب إصابة أي روسي في سوريا أو أي قطعة حربية روسية وبطريقة استعراضية وإعلان أمريكا ذلك لإشباع غرور بوتين واعتبار أن الضربة لم تكن موجهة لروسيا بل للنظام السوري حصراً ، ولتحقيق هذا الهدف استخدمت أمريكا لأول مرة صاروخاً باهض التكاليف لضمان عدم حصول خطأ ووقوع أضرار على روسيا .

3- تولى الإعلام الغربي الترويج لما ورد في الفقرتين 1و2 على نطاق واسع لأجل لجم رد فعل بوتين ومع ذلك فقد التقط سفير روسيا في واشنطن أهم رسائل الضربة وهي إهانة بوتين لأجل نزع صفاته التي عرف بها وأبرزها أنه لا يتردد عن الرد على أي ضربة بقوله " أن الضربة إهانة لبوتين ولم يقل لروسيا " ، فأمريكا تعرف أن بشار نعجة ميتة وأن الأهم بالنسبة لها هو لجم صعود روسيا المفاجئ والسريع وتعاظم قوتها ، وهذه الفرضية تدعم فرضية أخرى وهي أن أمريكا تعمدت جر روسيا للتورط في المستنقع السوري ، ولهذا كان تقليص رد فعل بوتين أهم ما اقترن بالضربة ، ولا يمكننا أيضاً تجاهل تصريحات ومواقف ترامب قبل الضربة حينما هنأ بوتين بفوزه في الانتخابات ، بعكس توصية مستشاريه ، وتأكيداته أنه يريد إقامة علاقات طيبة مع روسيا ... الخ ، وكانت تلك التغريدات في تويتر من نصائح المخابرات لترامب تشكل نفسياً عامل شعور بالرضا لدى بوتين يشبع غروره .

4- كانت الضربة مصممة أساساً وكما أشرنا ليس لإسقاط بشار بل لهز صورة بوتين وتلك كانت خطوة على طريق إعادة روسيا لمربع الرئيس يلتسين الضعيف وهو ما عرفه بوتين بحدسه المخابراتي وقبل توفر أي معلومات عن هذا الهدف ، ولهذا رأيناه الصامت الأكبر بعد الضربة رغم أن العالم كله توقع صخباً منه ، وهو الصمت الذي توقعته المخابرات الأمريكية مسبقاً وأعدت له وسائل صب ماء بارد عليه .

5- لكن بوتين هذه المرة لم يتحكم به نصفه الشرقي بل نصفه الغربي وهو البراغماتية الغربية ، فهو يدرك أن الرد العدائي السريع هو ما خططت له أمريكا لأنه سيخرب مشروعه الكوني وليس مشروعه في روسيا فقط ، ولكنه عرف اللعبة الأمريكية فصمت واتجه لعمل آخر للرد على أمريكا ، ربما يكون توجيه ضربات مخابراتية أو سياسية أو اقتصادية ... الخ لأمريكا في أماكن أُخرى لهز صورتها أمام العالم وهذا ما سرب من من جهات روسية بقولها أن بوتين ربما سيوجه ضربة انتقامية لأمريكا في أفريقيا ، وأرجح بأن أفريقيا ليست هي المقصودة بل مكان أو أماكن أخرى تؤذي أمريكا ، بمعنى أن روسيا لم تسكت على الضربة الغربية إلا لترد بمثلها إن لم يكن بأقوى منها في أماكن مهمة .

6- أين تقع الأماكن الأهم من أفريقيا ؟ ، دون أدنى شك فإن الاتحاد الأوربي أول مرشح لتوجيه ضربة بوتين لأمريكا ولبريطانيا وفرنسا منه ، فالاتحاد الأوربي المتردد والمنقسم حول الموقف من روسيا أصلاً هو البطن الرخوة للتحالف الغربي ، ولروسيا نفوذ فيه من خلال المصالح المشتركة وخصوصاً منع حرب عالمية أو عودة منلفتة للحرب الباردة لأن كلا الاحتمالين يضربان هدف تعزيز الدور الأوربي في الصميم وهو ما تسعى إليه أمريكا وبريطانيا تحديداً ، إذ ليس من مصلحة أمريكا تعاظم قوة الاتحاد الأوربي وهو ما جعلها تشجع بريطانيا على إضعافه من الداخل بانسحابها منه ، كما أن تصدير روسيا الغاز لأوربا مهم جداً لأوربا .

بناء على ما تقدم ، فإن بوتين ربما سيرد في أوربا بعمله على تحقيق تقارب أكثر مع الأطراف الأوربية التي وقفت ضد الضربة أو تحفظت عليها ، أو أنها بالأصل كانت ضد تصعيد الخلافات مع روسيا مثل ألمانيا وهي أهم دول الاتحاد الأوربي ، ويمكن لبوتين بتبني خطوات مغرية لأوربا اقتصادياً ومطمئنة لها أمنياً وسياسياً أن يزيد من حجم الخلافات الأوربية الأمريكية وهو ما سيضعف بريطانيا وفرنسا ويحملهما مسؤولية التوترات مع روسيا الناتجة عن الضربة في سوريا .

إضافة لذلك ، يمكن لروسيا وعبر عمل مخابراتي محكم زيادة تكاليف الخلافات في شرق أوربا وشمالها خصوصاً تنمية خوف دول البلطيق ( لاتفيا ، استونيا وليتوانيا ) والتي تخشى من ( الخطر الروسي ) ، وبما أن زيادة مخاوف تلك الأطراف الأوربية الصغيرة والضعيفة عسكرياً يؤدي إلى زيادة تورط أمريكا ومن معها وتحمل تكاليف ذلك ، فإن من المرجح أن تلجأ المخابرات الروسية إلى تصعيد القلق خصوصاً إذا حركت قواتها المسلحة في مناورات عسكرية محسوبة وهو وما قد يساعد على ضم روسيا لأجزاء من دول أوربا لها كانت جزء من الاتحاد السوفيتي كما فعلت مع أوكرانيا بفصل أجزاء منها وانضمامها لروسيا أو كما فعلت بإعادة القرم إليها ، ولكن أمريكا وهي تجبر من قبل روسيا على زيادة نشر قواتها وزيادة الانفاق العسكري ستفشل في تحقيق وعودها لحلفاءها خصوصاً في ظل التهديدات بإقالته .

7- هل توجد مناطق أخرى يمكن لروسيا أن ترد فيها ؟ ، نعم ، في الوطن العربي يمكن لروسيا أن ترد باللعب على وتر ازدواجية أمريكا في التعامل مع دول عربية خصوصاً موقفها المغذي للخلافات بين قطر ودول الخليج العربي ويمكن لروسيا أن تجد وسائل ترسيخ فكرة أن أمريكا تغدر بمن تقدم لهم الوعود وعقد صفقات تجارية وربما عسكرية مع دول خليجية وتقديم دعم روسي لدول خليجية بالضغط على إسرائيل الشرقية مثلاً .

ولكن ، وإذا كان بوتين يريد قلب الطاولة على أمريكا بطريقة تزلزل وجودها في المنطقة والعالم فهي إقدامه على اللعب في العراق وهو المركز الأساس للمصالح الأمريكية الاستراتيجية ، وهو يستطيع ذلك بطريقتين ، أما بزيادة تعاونه مع إسرائيل الشرقية لإقلاق الوجود الأمريكي في العراق ، أو بإعادة النظر بموقفه من المقاومة العراقية والتنسيق معها .

فهل يستطيع بوتين أن يصبح ظاهرة اسمها بوتينيا ؟


Almukhtar44@gmail.com

15-4-2018

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page