top of page

الرفيق المجاهد صلاح المختار - متى تصبح الديمقراطية صندوق باندورا * ؟


متى تصبح الديمقراطية صندوق باندورا * ؟

الحلقة الأولى


تلقيت رسائل عديدة حول ما كتبته مؤخراً وكانت عبارة عن متابعة واعية تحمل في طياتها حرصاً على الاستيضاح والتعليق ، وفي هذ التحليل سوف أوضح ما لم يكن واضحاً للبعض حرصاً مني على عدم مرور فهم غير صحيح حتى ولو لفقرة واحدة مما اكتبه .

في رسالة من صنعاء قال أحد الشباب القومي العربي : ( لاحظت في مقالتك الأخيرة ( التضليل المبرمج دولة وطنية أم مدنية ) انتقادك اللاذع للديموقراطية ومشتقاتها وما نتج عنها من كوارث للعرب وبالعراق خصوصاً ، وكأنك تلمح إلى أن النظام القادم بالعراق بعد التحرير سيكون نظاماً أبوياً قوياً وبطريقة القيادة الجماعية وأن مبدأ التعددية الحزبية وإقامة انتخابات ( لم يعد مقبولاً ) ... فهل هذا يعد تراجع أم أن ذلك تكتيك مرحلي بسبب تأثر الشعب بالمصطلحات المطاطة التي جاءت مع الأجنبي وأن الشعب الآن وعى ومل من الفوضى الهلاكة القادمة مع الأجنبي ويتوق لعودة الحكم الأبوي ، والدليل على ذلك تحسر الشعب على القائد صدام وتمنيهم عودته وعودة حزبه لحكم العراق ؟ ) .

هذه الملاحظة تلزمني أولاً وقبل كل شيء التأكيد على أن نقدي للديمقراطية ليس عاماً بل هو نقداً لنوع محدد منها هو النوع الليبرالي المطبق في أمريكا وغرب أوربا ، وأُزيد ، أنه ليس نقداً لتطبيق هذا النوع من الديمقراطية في الغرب فهو قد يكون مناسباً لأوضاعهم بل هو تحديداً نقد لمحاولة تطبيقه لدينا وفي العالم الثالث فقط ، وهذا ليس بالجديد فقد ثبت البعث ذلك كأحد أهم المداميك الأساسية للديمقراطية الشعبية ، فنحن نميز بين ديمقراطية ليبرالية تصلح لمجتمع متطور اجتماعياً وثقافياً وعلمياً ومستقر سياسياً على قاعدة الدستور وتنفيذ القوانين في دولة تكاملت أُسسها وبين تطبيقها في قطر عربي أو دولة عالمثالثية لم يتطور وضعها بعد ليصل إلى مستوى دولة المؤسسات الراسخة وإنما هي في حالة تطور في مناخ فيه مؤثرات أوضاع ما قبل الوطنية مثل العشائرية والمناطقية والإثنية والعائلية والطائفية ... الخ .

إضافة لما تقدم وجود أمية وفقر بمستوى كبير يؤدي حتماً وتلقائياً إلى تخلف في الوعي السياسي يجرد أغلب الناس من القدرة على إعطاء حكم صحيح على ما يجري وتحديد من هو الممثل الحقيقي للعدالة ناهيك عن الحرمان الفعلي من حرية التعبير عن الرأي بسبب تسلط أصحاب المال واستخدامه في الضغط أو التضليل ، لذلك فإن الليبرالية في العالم الثالث تصبح مجرد لغم مدمر اختير عمداً كي يفجر كافة أشكال الأزمات المعقدة والمتداخلة والتي تجر البلد إلى كوارث التشرذم وهي إحدى وظائف اختيار المخابرات الغربية الديمقراطية الليبرالية وفرضها علينا .

لكن البديهية التي لا يمكن إغفالها ، هي ، أن رفض الديمقراطية الليبرالية يقترن شرطياً بالتمسك بالديمقراطية الشعبية والتي تتجنب مخاطر الليبرالية بتأكيد دور الجماهير المنظمة في نقابات مهنية وأحزاب في المساهمة الفعالة في صنع القرار وليس الجماهير المنفلتة من أي إطار تنظيمي ، فبقاء تأثيرات ما قبل الوطنية ووجود أمية واسعة النطاق وفقر يضرب الملايين يمنع عملياً تطبيق ديمقراطية ليبرالية ويجعل منها أفضل وسيلة لشرذمة الناس والأحزاب والكتل الاجتماعية الكبيرة ودعم نشوء أحزاب قاعدتها العشائر أو الطوائف أو حزب الفرد الواحد أو كتل تتمحور حول فرد ، وهذه التشكيلات كلها مجرد فقاعات بصرية وصوتية لا تستطيع تغيير الواقع بالديمقراطية الليبرالية نظراً لغياب الوعي أو ضعفه الشديد والتخلف الاجتماعي والاقتصادي والتكنولوجي ، وهي من أهم شروط ممارسة الديمقراطية الليبرالية ، وفي حالة مثل هذه نرى تأثيرات المال على الفقراء وسيادة التزوير والتلفيق اللذان يعدان وسيلتها الأساسية لإبقاء سيطرتها بتسخير الاعلام والأكاديمية لإعادة تكوين وعي الناس وفقا لمصلحة من يملك المال .

ولكن حينما تكون هناك نقابات مهنية وأحزاب جماهيرية عقائدية فإن الأميين وأنصاف الأميين والمتأثرين بعلاقات ما قبل الوطنية يمكن إبعادهم عن التأثيرات السلبية من خلال انخراطهم في تلك المنظمات الشعبية وإعداد طليعة مثقفة وواعية حتى في مجتمع لم يصل بعد إلى حالة الاستقرار الدستوري ، وتستطيع ضمان قيام مجتمع عادل من خلال الدمج بين قوة الجماهير ممثلة في نقاباتها وتنظيماتها العامة وهي تمثل اكثر من 90% من الناس وبين ضرورة وجود حرية رأي تطلق الابداعات الإنسانية وترفع غطاء الابتزاز - خصوصا المادي - والخوف عن الملايين .

فالتغيير الثوري الجذري لا يحدث بانقلاب عسكري مجرد ولا بقرار فردي من فوق سلطة متأرجحة بل يحدث فقط بالدمج بين الهدف الثوري الواضح وبين إشراك الجماهير التي تعرضت لتوعية مبرمجة من قبل الحزب أو النقابة في صنع القرار السياسي .

ولدينا أمثلة واضحة ، فكوبا مثلاً دولة عالمثالثية كان الفقر والأمية والهيمنة الأجنبية تدمران أسس الحياة الطبيعية فيها لكن الثورة الكوبية باعتمادها على تنظيم ثوري مسلح أسقط ديكتاتورية باتيستا الفاسدة والتابعة لأمريكا وتولى الحكم وهو واع ومسلح بأيديولوجيا ثورية أنتج أجيالاً من الكوبيين وعت طريقها نحو التحرر الحقيقي فرأينا كوبا تصمد عقوداً ورأينا أمريكا ورغم كل مؤامراتها تفشل في إسقاط النظام الثوري فيها وبنفس الوقت وفرت الثورة الكوبية للشعب حياة حرة كريمة بعيدة عن الاستغلال والتمييز والفساد .

وفي العراق ، وهو أيضا قطر عالمثالثي تصدى البعث للحالة المتخلفة فيه ببرنامج وطني شامل قام على عدة أسس منها تطبيق خطوات ثورية تهدم أسس الاستغلال والفقر وبنفس الوقت نفذت خطط توعية شاملة للجماهير ولطليعتها السياسية :

فحملة القضاء على الأمية كانت ضرورة حاسمة لتجاوز ثغرات دولة عالمثالثية متخلفة وإعداد ملايين الناس للعمل في إطار ثوري ، كما كان القضاء على العوز والفقر مرافقاً للقضاء على الأمية فكانت تلك الخطوات والبرامج ضمانة لتقييد واضعاف علاقات ما قبل الوطنية وتوفير قدرات جماهيرية جبارة تخلق وضعاً جديداً إيجابياً تغير فيه المجتمع جذرياً ونقل العراق إلى مرحلة دخول نادي الدول المتقدمة وهو ما أجهضته أمريكا بتعمد كما أصبح الآن واضحاً .

ومثال العراق وكوبا يضاف إليهما مثال أكثر قوة ووضوحاً ، وهو الصين ذلك البلد الزراعي المتخلف الذي كان يضم أكثر من مليار إنسان في حالة تخلف لكنه نهض بقوة بفضل الديمقراطية الشعبية وصار الآن القوة العالمية الأكثر نمو وتقدماً ، ولو أنه اتبع طريق الديمقراطية الليبرالية كما خططت المخابرات البريطانية والأمريكية لرأينا الصين الآن عبارة عن عشرات الدولة المستقلة والمتخلفة فقط بفضل الديمقراطية الشعبية تمكنت الصين من وضع خطط تنمية طويلة الأمد ونفذتها بحزم ومركزية تامتين .

فالتعليم وتطبيق الديمقراطية الشعبية التي أُساسها إشراك الجماهير في صنع القرارات السياسة وحمايتها وضمان تطبيقها وإجهاض كافة أشكال التأمر هي التي ضمنت للعراق وكوبا والصين فرص النجاح والتقدم والقضاء على الفقر والأمية وتوفير طب وتعليم مجانيين وخدمات شبه مجانية فغاب الظلم الطبقي والتمييز الاجتماعي وسادت الروح الوطنية ودفعت إلى الخلف علاقات ما قبلها كالعشائرية والطائفية وغيرهما ، وبعكس العراق وكوبا والصين فإن كل دولة طبقت الديمقراطية الليبرالية وهي منتمية للعالم الثالث وجدت نفسها أسيرة عُقد وتحديات مدمرة أزالت فرص النجاح والتقدم ، على مستوى حقوق الناس الأساسية والسياسية ، لسبب بسيط هو أن مجتمعاً في دولة عالمثالثية لا يمكنه الازدهار في ظل ديمقراطية ليبرالية لأنها عندما تنمي الفردية والأنانية فإنها تفتح كافة أبواب تضخم أسوأ أشكال علاقات ماقبل الوطنية خصوصاً العشائرية والطائفية والإثنية وغيرها وهو ما نراه الآن في العراق المحتل .

وربما يقول البعض ولكن الديمقراطية الليبرالية حققت تطوراً تكنولوجياً سريعاً في دول آسيوية مثل النمور الآسيوية ، هنا علينا أن نتذكر بأن ذلك تم بفضل الاستثمار الأجنبي الواسع وتسلط هذه الاستثمارات في تحديد توجهات تلك الدول التي صارت من بين أدوات الرأسمالية الأمريكية لنقل استثماراتها إلى الخارج ، فتلك الدول إذاً عبارة عن شركات كبرى وليست دول بالمعنى المستقل للدولة ، ولهذا نرى اقتران ذلك التقدم التكنولوجي دائماً بازدياد الفساد والظلم الاجتماعي وتعميق الفوارق الطبقية والحط من قيمة الإنسان وهذه نتيجة غير مقبولة إنسانياً .

ومن البديهيات التي يجب أن لا تغيب عن البال بديهية أن العدالة لا تتحقق بمجرد تحقيق تقدم تكنولوجي فهذه عملية كمية تتحقق بوجود مال وخيرة حتى في أكثر الأماكن تخلفاً وبدائية ، بل يحصل التقدم الحقيقي بعملية نوعية تقاس بمستوى ونوعية نيل الإنسان حقوقه الأساسية كحق العيش الكريم والآمن وهما مفتاح تعظيم إبداعات الانسان وتعميق هويته الإنسانية إضافة للحقوق الفرعية والثانوية وهي الحقوق السياسية كالديمقراطية .

في النمور الآسيوية تحقق تقدم كمي ولكنه لم يقترن بتقدم نوعي لأن الإنسان هناك بقي أسير الاستغلال القاتل لإنسانيته حيث يعمل ما بين 9 و10 ساعات يومياً فتمتص منه كل طاقاته وحينما يخرج يحتاج للراحة والمتعة الجسدية وهكذا تخمد طاقاته الإنسانية ويتحول رغماً عنه إلى بروبوت حي .

نعم ، لا خلاص لنا إلا بديمقراطية شعبية حقيقية وسنامها القيادة الجماعية وأداتها المركزية الديمقراطية في فترة إعادة البناء والديمقراطية المركزية في فترة الاستقرار والديمقراطية المنفتحة في فترات رسوخ النظام الوطني ، وهنا تبرز ضرروة التعددية السياسية المحددة بإطار وطني يحترم حقوق الوطن والهوية وتقوم عليهما ، فالخيار الوطني التقدمي المتعلق بنوع الديمقراطية لا يقوم على إلغاء الديمقراطية واختيار الاستبداد أو الديكتاتورية ، بل التمسك بالديمقراطية الشعبية .

يتبع .

Almukhtar44@gmail.com

31-8-2018

* صندوق باندورا : أسطوة يونانية تقول بأن هناك صندوقاً مغلقاً يحتوي أخطر الشرور ، لذلك يجب عدم فتحه لمنع انتشار الشرور في العالم .

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page