top of page

الرفيق المجاهد صلاح المختار - متى تصبح الديمقراطية صندوق باندورا ؟ ، الحلقة الثالثة


متى تصبح الديمقراطية صندوق باندورا ؟

الحلقة الثالثة




الشورى ليست نظاماً دينياً ظهر مع الإسلام كما يصور الغرب الاستعماري ، بل هو نظام دنيوي وتراث قومي عربي ظهر قبل الإسلام في بابل وآشور وسومر واليمن والشام وفي كل تلك الحضارات كانت الشورى جزء من نظم امبراطورية أو ملكية ، ومجرد وجود الشورى قبل ما بين ألفي عام وستة آلاف عام في الوطن العربي مؤشر لأصاله التربية الشوروية والنزعة الجماعية لدينا وهي نقيض النزعة الفردية التي ولدت منها الديمقراطية الغربية . الشورى نظام من تسميته يقوم على التشاور قبل اتخاذ القرارات العامة بين عليّة القوم وهم الحكام والأفراد الأكثر وعياً وعلماً واحتراماً في المجتمع ، وهؤلاء يقررون أو يساهمون في اتخاذ القرار بناء على حوارات ومناقشات وجدل يفضي للاتفاق أو غلبة رأي الأكثرية . وبهذا المعنى فنظام الشورى يقوم على قاعدة وعي متقدم وثروة معرفية وهيبة اجتماعية لدى من يمارس الشورى وأمين ومتسامح إضافة للحزم عندما تقتضي الحالة .

وفقاً لهذه الحقيقة التاريخية فإن جذور الديمقراطية الشعبية عمرها آلاف السنين لدينا وتعرضت هذه الجذور للجفاف أو التجفيف نتيجة لكوارث الحروب وتدهور الحضارات ... الخ ، ولكن الجذور بقيت حية في نفوس الناس وكانت سرعان ما تنمو حالما تجد مناخاً مناسباً لها لأن ثمة طبيعة ثانية ترسخت في نفوس الناس عبر ممارسات الشورى من رأس الدولة إلى مجلس المحلة الذي ينتخب أو يعين المختار مروراً بديوان شيخ القبيلة والذي أصله التشاور وبحث شؤون القبيلة ، بينما الديمقراطية الغربية هي مجرد غطاء خارجي طارئ تم فرضه بالأصل لإنهاء كوارث الصراعات الطاحنة فهي ممارسة حديثة وتحمل في أحشاءها كل عوامل البدائية الأوربية من قسوة متطرفة وأنانية أكثر تطرفاً ، لذلك ، فإنها جاهزة للارتداد للوحشية بسرعة صادمة وهو ما نراه الآن في السلوك الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً .

الديمقراطية الشعبية والشورى ثمرة آلاف السنين من تراكم التجارب وغربلتها وبلورة ضوابط تتحول تلقائياً وبمرور الزمن إلى طبيعة ثانية ، ولذلك نرى الشورى تمارس في أسوأ الأحوال في نطاق ضيق – العائلة والقبيلة ... الخ - ثم تنهض فجاة بعد توفر طليعة تنهض بالأمة .

الشورى تكون فعالة كلما كان اعتمادها على اختيار الأفضل والأقدر والأكثر حكمة لإدارة المجتمع أو الدولة ، فالاختيار أو الانتخاب يستند لإرادة الجماهير وتوجهاتها والناس تختار من جربته وعرفت خصاله كالشيوخ الذين يتميزون بالحكمة ونزعاتهم الإنسانية التي تزداد قوة مع تقدم العمر وتستبعد المستغل والمضلل لها والذي تزداد أنانيته ووحشيته كلما تقدم في العمر كما تفعل الديمقراطية الليبرالية .

عندما نتحدث عن الديمقراطية الشعبية والشورى نرى أمامنا النبي محمد - ص - وأبو بكر وعمر وعلي وعثمان وعمر بن عبدالعزيز ( ر) وغيرهم ، وقبلهم مجالس شورى الآشوريين ومقايل اليمنيين وفي هذه النمادج نرى غالباً حكاماً تطغى عليهم أهداف الخدمة العامة وتحقيق العدالة الاجتماعية رغم أن نظامهم السياسي كان مركزياً شوروياً ليس فيه انفلات ، بينما عندما نرى تشرتشل وبوش وأوباما وترامب وغيرهم فإننا نرى فردية متطرفة وأنانية طاغية وإفراط في العدوان وإبادة الملايين ونهب ثروات الآخرين ولا نرى لديمقراطيتهم أي أثر لأنها مجرد نظام داخلي يتحكم بهم ويحقق أهدافهم الضيقة والأنانية ! .

فقط قارنوا بين هؤلاء العرب أبناء الصحراء ومحيطها الأخضر كالعراق والشام ومصر ، التي توصف بأنها مركز تخلف وبين تلك الأسماء الغربية التي عاشت وسط تقدم مدني كبير جداً أكسبها علماً وتقاليد وأساليب عمل وحياة ستجدون الغرب هو ساحة البدائية المطلقة والوحشية المتطرفة التي سحقت الإنسان في أوربا وأمريكا الشمالية ، وبعد أن طوعته حددت له مسالكاً واضحة لممارسة حقوقه تكرس النهب واستلاب الإنسان ! ، تلك الأسماء قامت بكل ذلك وهي ترتدي وجهاً باسماً ودوداً تراه ينطق بكلام مهذب ولطيف عن الإنسان وحقوقه ! ، ولكن : كيف يمكنني تصديق أمريكي أو أوربي غربي يتحدث عن الإنسانية وحقوق الإنسان وهو يبيد شعبي في العراق وفلسطين وسوريا واليمن وليبيا يومياً وبإصرار وبلا رحمة ؟ ، وكيف اقتنع بإنه يؤمن باحترام إنسانية الإنسان وهو الذي سرقني ومازال يسرقني حارماً إياي من التمتع بثرواتي التي حولها إلى مصدر موت وعذاب إشباعاً لأنانيته المتطرفة ؟ .

بل كيف أنظر للغربي على أنه إنسان ديمقراطي وهو يقوم بكل تلك الجرائم بعد تخطيط دقيق ومتأن وينفذه على مراحل زمنية تصل حد المائة عام وهو ما يؤكد ترسخ روح الجريمة المنظمة فيه وأن أعماله لم تكون نزوة طارئة ؟ ، كيف أصدق إنسانية الغربي عندما يسن قوانين تحافظ على سلامة القطط والكلاب لكنه يتعمد إبادة الملايين من البشر وتهجيرهم بالإرهاب الدموي من وطن أجدادهم وبيوتهم ويمزق عوائلهم فيجعل كل عائلة متوزعة بين قارات الأرض ويدمر مدارسهم ويفرض عليهم العصابات وحثالات القوم ؟ ، لو كانت للغربي ذرة إنسانية وصلة بباقي البشر المظلومين لتعلم الدرس الأول في الديمقراطية وهو مساواة الناس واحترام حقوقهم وتراجع وتاب واكتسب مشاعر التعاطف واحترام حياة ومصير الغير لكنه يتظاهر بالتعلم والندم عندما يهزم وما أن يستعيد قوته حتى يعود لقسوة اشد ووحشية اخطر ! .

أوربا الاستعمارية التي فقدت أغلب مستمعراتها بصعود أمريكا والمعسكر الاشتراكي بعد الحرب العالمية الثانية تظاهرت بالإنسانية والرحمة والتوبة وتقربت من العالم الثالث لكنها ما أن انهار الرادع السوفيتي حتى تنمرت مجدداً وعادت إلى ممارسات الاستعمار الأوربي الذي دشن عصور الوحشية المتطرفة ! ، فرنسا مثلاً ترفض حتى الآن الاعتذار عن جرائمها البالغة البشاعة ضد الشعب العربي الجزائري رغم مرور عقود على تحرر الجزائر ورغم توفر آلاف البراهين والوثائق التي تبثت أنها نفذت مجازر جماعية وأبادت أكثر من مليون ونصف المليون جزائري ! ، وكذلك بريطانيا وبلجيكا واسبانيا ! ، وجريمة غزو ليبيا بوحشية لا نراها إلا في عصور ما قبل الإنسانية وأظهرتها فرنسا وحلف النيتو في ليبيا تؤكد بأن الأوربي النمطي يتراجع عندما يضعف لكنه لا يتراجع حقاً عن نزعته الأنانية .

الإنسانية والديمقراطية تبدأ كل منهما من الذات بالانقلاب الجذري على عدوانيتها وأنانيتها وتمر بالآخرين فتحترمهم وتعاملهم كبشر وتتوج فضائلها بتحريم ازدواجية المعايير بتأكيد مبدأ : ما أتمناه لنفسي يجب أن أقبله لغيري بلا تردد ، وبدون تلك الانقلابية التي أرساها محمد فإن الديمقراطية والنزعة الإنسانية لن تكونا أكثر من غطاء للوحشية وتنظيم للجريمة .

انظروا لممارسات العربي خصوصاً والشرقي عموماً ومهما كان متخلفاً ثقافياً وعلمياً ، هل تشبه ممارسات الأوربي والأمريكي ؟ ، يقينا أن العربي فيه عيوب كثيرة بعضها لا تغتفر ولكنه من زاوية الاستعداد للقتل الغائي ، أي القتل المتعمد وبلا مبرر حقيقي وغير المحكوم بضرورات من المستحيل التخلي عنها كالدفاع عن النفس أو ابعاد الموت جوعاً ، لا يقتل بل يتراحم ويتعاطف ويساعد وينقذ ويغفر مراراً والسبب أنه وريث تربية حضارات قديمة خلقت طبيعة ثانية تتوارث الكثير من فضائلها الشعوب حتى عندما تكون في وضع تخلف وفقر .

وما تعلمته البشرية منذ عرفت التجمع البشري الأول وحتى غزوات بوش وخميني وأبو بكر البغدادي هو أن الخطوة الأولى في ضمان العدالة هي الاستقرار لفترات تكفي لترسيخ الدولة وامتلاكها قوة الحسم ، فما لم يستقر مجتمع وتستمر السلطة فيه لفترات كافية لتطبيق برامجها الاستراتيجية فلن تقوم للعدالة قائمة ، لأن التغييرات الفجائية تفضي إلى الفوضى بكافة أشكالها فتزيل شروط قيام العدالة والاستقرار ولا تسمح بتوفر المناخ المطلوب لتراكم التجارب ، مادام الاضطراب يبقي الإنسان أسيراً لقلق دائم يحفز لديه الغرائز القتالية بدل طغيان مشاعر الأمن والاطمئنان والتعاون والبناء والتي تعد مطبخ الحكمة والتعقل وتلك هي منابع السلوك الإنساني السليم والذي يصنع في بيئة الاستقرار كل الفضائل ويحول النوايا إلى وقائع فتظهر الشورى وتعقبها الديمقراطية ويحل القانون وتتراجع النزوات الأنانية وترتقي مستويات الفهم والإدراك .

والسؤال الذي يتجاهله الغربيون عمداً هو : هل سمح لنا الغرب الاستعماري بالحصول على فرصة الاستقرار الضرورية لقيام نظام مسيطر يستطيع ممارسة الديمقراطية لاحقاً ؟ ، كلا بالطبع ، فقط انظروا لتاريخنا الحديث منذ سايكس بيكو وحتى الآن ستجدون أن الغرب لم يترك لحظة واحدة تمر دون استخدامها لمنع استقرار أقطارنا العربية على قاعدة الاستقلال الحقيقي والتنمية للإنسان والعلوم والثروات .

ومن بين أبرز أشكال إقلاق تجارب البناء الجاد للاستقرار تعمد الغرب التدخل باسم حقوق الإنسان معترضاً على مركزية السلطة التي تريد بناء دولة حديثة رغم أن المركزية حتمية للوصول إلى الاستقرار وتوفير البيئة المناسبة لولادة الديمقراطية الحقيقية لكن الغرب يتدخل في هذه المرحلة تحت أغطية حقوق الإنسان ليخلق المشاكل ويهدم التجارب الاستقلالية الحقيقية فيصبح الاضطراب ناشئاً عن تدخلات خارجية وهكذا تجهض مشاريع البناء الديمقراطي ! ، وعندما تريدون معرفة لِم تفشل تجاربنا الديمقراطية ابحثوا عن الغرب أولاً .

وما يحاربه الغرب فينا سبق أن طبقه هو في العصر الحديث إذ أن الديمقراطية الليبرالية لم تظهر فجأة كاملة مكملة بل كانت نتاج تطور تدريجي ، ولعبت المركزية والعنف دوراً أساسياً في التهيئة لولادتها ، فالمركزية التي تعقب الديكتاتورية والاستبداد تسبق الديمقراطية حتماً في عالم الفوضى والبدائية والظلم ، فلم يحرّم الغرب علينا ما فعله هو طوال عقود من المركزية والاستبداد والقهر قبل الثورة الفرنسية وبعدها وظهور العسكر – انقلاب نابليون – وصولاً للعقد الاجتماعي الذي أرسى قواعد الديمقراطية في أوربا ؟ .

لم تشهد أوربا الغربية الديمقراطية الليبرالية الحالية والتي تفخر بها إلا بعد استبداد وظلم وتمييز وصراعات استمرت قروناً وكانت ثمرة تربية للأجيال الجديدة في المدارس أولاً حيث اتبع نظام تعليمي انضباطي يعلم الطفل كيف يستمع للطفل الآخر ولا يقاطعه أو يعتدي عليه وكيف يعبر الشارع وكيف يخاطب الغرباء ولم التقيد بالقانون ضرورة وأهمية الابتسامة بوجه الآخرين ومساعدتهم ... الخ ، ولكن متى ابتدأت هذه التربية للأطفال والتي أصبحت مصدر المدنية الأوربية الحالية ؟ ، تربية الأطفال اقترنت بتوفير الاستقرار وهيمنة سلطة القانون وإخضاع الجميع لها بلا أي استثناء وبمرور العقود تحولت أوربا من الفوضى الهلاكة إلى الاستقرار المنتج والخلاق .

في ضوء ما تقدم ، هل يمكن القفز من فوق تجارب التاريخ هذه ؟ ، وهل من المناسب أن نهمل الأهمية القصوى للاعتراف باختلاف الظروف والبيئات والتي تنتج حتماً أشكالاً مختلفة من الممارسات السياسية وفي مقدمتها الدمقراطية ؟ .

أوربا كانت خالية من الماضي الحضاري قبل نهضتها الحديثة ولم تجد معينا أو نبعا ترتوي منه وهي تبحث عن الحلول ، فلا شورى ولا أي نوع من الديمقراطية كانت فيها ، وفي اليونان بدأت مفاهيم الديمقراطية تظهر ولكن قبل ذلك كانت أوربا مجردة من السوابق التاريخية في الديمقراطية أو الشورى وكان العنف والوحشية هما السائدان ، وتجربة الديمقراطية الإثينية لم تنتشر في أوربا وبقيت محاصرة فيها ، فاستمرت سيادة الوحشية والتخلف حتى القرون الوسطى حيث حصل الأوربي على أسس النهضة من العرب سواء عبر الحروب الصليبية أو بقيام الحضارة العربية الأموية في الأندلس وإشعاعها على أوربا أو بتدفق مئات الأوربيين على بغداد في العصر العباسي للتعلم وأخذ العلم من العرب .

البعث وقبل أن يكون اسم حزب سياسي هو ما شرحناه الآن : إحياء كل إيجابي في تاريخنا مثل الشورى ودمجه بما أنتجه حاضرنا مثل الديمقراطية ولكن الشعبية ، لنقف على قدمين فولاذيتين ونتحدى الفوضى وعدم الاستقرار ونبدأ بإعادة بناء الإنسان أولاً بعد أن تعرض للخراب ، متجنبين اللغم الأخطر لنسف استقرارنا وهو فتح صندوق باندورا المحشور في الديمقراطية الليبرالية .

Almukhtar44@gmail.com

3-9-2018

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page