top of page

الرفيق المجاهد صلاح المختار - ضميرونيا ( الحلقة الأولى )


ضميرونيا -1


" حاجتان إذا نامتا ستتعب في حياتك ، أحداهما الضمير "

- برناردشو -




ما سنناقشه اليوم مشكلة كل من عذبه خبث أخوة يوسف (ع) ، وفيها نجد أن مسالة الضمير هي اللغز المحير :

أين يذهب ضمير من يحفرون الفخاخ ويدسون الألغام تحت مقاعد ( أخوتهم ) وهم يعلمون أنهم يقومون بعمل شرير ؟ ، هل مات أم خدر ؟ .

لنبدأ بالأساطير وقصص الأديان : يقال في الأديان والأساطير أيضاً بأن الله حينما عاقب آدم وأنزله من الجنة إلى الأرض وأنجب من حواء هابيل وقابيل كان إبليس قد نزل معه إلى الأرض وأخذ يتدخل في الإنجاب البشري حيث أن كل من ينجب يقوم إبليس بدس جيناته في جنينه فتولد أجيال من البشر تتعايش في داخلها جينات رحمانية وجينات إبليسية ، وهنا تكمن مصادر ثنائية البشر المتمثلة بوجود الرحمن وإبليس في آن واحد داخل الجنس البشري ، أي ثنائية الخير والشر ! .

العلوم الحديثة تؤكد وجود هذه الثنائية – الصراع بين نقيضين داخل الإنسان – وإن كان بطريقة أخرى خصوصاً في نظرية صراع الجينات ، ناهيك عن أن البشرية طوال تاريخها عاشت هذه الثنائية وتحملت بسببها الكثير من الأهوال والكوارث حيث أن الشخص الحامل لها يستطيع أن يقدم الانطباع ونقيضه لمن يتعامل معهم وينجح في خداع البعض بترسيخ فكرة أنه طيب ، مثلما يؤكد أنه شرير لا يأبه لا بضمير ولا بحقوق فما يريده فقط هو تحقيق أهدافه سواء تم ذلك تحت غطاء الطيبة أو تحت غطاء الشر .

وفي عالم ملغوم كهذا نواجه إشكاليات معقدة ومنها إشكالية أننا في حالات كثيره نواجه انطباعات متناقضة عن شخص واحد فبعض الناس يصفونه بالطيب ولكن سرعان ما تجد آخرين يصفونه بأنه شرير وحاقد ومتلون ! ، كيف حصل هذا التناقض في تقييم نفس الشخص ؟ ، ولماذا نواجه عبر التاريخ هذه الثنائية في شخصية بعض الناس ؟ ، هل الإنسان بطبيعته يحتوي في داخله حقاً على عبد إبليس وهو الشيطان إلى جانب عبد الرحمن ؟ ، وهذه الثنائية تكون كارثية النتائج حينما يتولى هؤلاء المسؤولية في أعلى مستوياتها سواء في الدول أو المصالح العامة أو القوى السياسية .

وعندما نصل إلى هذا الحد في تحديد ضرورة الوصول إلى نتائج وأجوبة نجد أنفسنا أمام مشكلة معقدة اسمها " مشكلة الضمير " حيث أننا نقف أمام كيان معقد جداً وغامضة بصورة دوخت العلماء والمفكرين عبر التاريخ ! ، وكما أن العلماء يواجهون اكتشافات صادمة حينما يدرسون تاريخ الكون وتشكله وطبيعته فإن العلماء والساسة ورجال الدين والمصلحون يقفون عاجزين أحياناً عن فهم هذا اللغز المسمى الضمير ! ، ما هو الضمير ؟ ، كيف نشأ وهل حقاً أنه قائد السلوك ومحدده ؟ ، وكيف يتعامل الضمير مع هذه الثنائية المغروسة في إنسان واحد ؟ ، هل هو موجود حقاً ؟ ، وإذا كان الجواب نعم ، فهل هو موجود في المخلوقات الأخرى ؟ ، وإذا كان سمة بشرية فقط فلم خُلق البشر هكذا ؟ .

الضمير مفهوم لم يتفق عليه حتى الآن بين كافة المراجع الدينية والعلمية والمصلحين والخبراء ولكن هناك أفكار واستنتاجات وعِبَر تكونت عبر التاريخ من خلال التجارب البشرية منها مفهوم الضمير ، فالضمير تعريفاً : هو تلك المنظومة الأخلاقية التي تتحكم في السلوك البشري فتقرر ما هو خاطئ وما هو صحيح أو بتعبير آخر تميز بين الشر والخير فتمنع الأول وتسمح بالثاني .

ولئن كان هذا التعريف سائداً إلا أن هناك آراء أخرى تنفي وجود الضمير أصلاً وتنسب الأفعال البشرية إلى قرارات شخصية تأتي في لحظتها أو كنتيجة لحسابات فردية صرفة ، وما زاد الاضطراب في تعريف الضمير هو أنه ليس مفهوماً مادياً بل هو كيان افتراضي من الصعب لمسه باليد أو تحديد مكانه بالضبط .

خُلق الإنسان وهو يحمل فوق كتفيه أهم كنوزه : الدماغ ، فهذا الكيان المادي الغامض ولد مع الإنسان ومع الحيوانات والحشرات وإن كان بأشكال مختلفة لكنه في الإنسان كان الأكثر لفتاً للنظر للدور الذي لعبه في تسييد الإنسان على الكرة الأرضية ، وأول ما ميز الدماغ البشري أنه مادة خام عندما يولد الإنسان يكون بغالبية خلاياه نائما ! ، الخلايا الدماغية تقدر ب100ألف مليار خلية لم تستخدم كلها بعد باستثناء عدد قليل منها يكفي لحفظ البقاء ولهذا لم يظهر الذكاء في فجر الإنسان وإنما ظهرت الغريزة أولاً كمحرك للإنسان ومقرر لتصرفاته ، وتدريجياً كان الدماغ يتفتح وينمو ويزيل غطاء عدم الاستخدام عن عدد من خلاياه مما أكسب الإنسان المزيد من الذكاء والتقدم ، وكانت مسيرة الإنسان أساساً هي مسيرة ايقاظ – أو استيقاظ - خلايا الدماغ النائمة تدريجياً حتى وصل الإنسان إلى وضعه الحالي ولكن لا يوجد من يجزم هل أن الخلايا الدماغية استيقظت وبدأت بالعمل تلقائياً أم أنها أُوقِظت من طرف ما خارج الإنسان .

لم يولد الإنسان وهو ذكي رغم أنه يملك قدرات الذكاء كامنة في الدماغ ، ومع استيقاظ الخلايا واستخدامها كان نمط وعيه يتغير فبعد مرحلة حماية الوجود في عالم افتراس الجميع ومن قبل الجميع شهد عصر الاستقرار النسبي ولادة وعي جديد أُطلق عليه لاحقاً اسم الضمير ، وهذا الوعي تميز بأنه مثل الجرس الذي يدق كلما اقترب الإنسان من خطأ أو خطيئة لينبهه ويحذره ولم يتبلور هذا الوعي إلا عندما جرب الإنسان ما عاشه آلاف السنين من صراعات كارثية انهكته كثيراً فتوصل لمواقف وثوابت أخلاقية ومنطقية وعملية صارت القاسم المشترك بين مجاميع بشرية تنظم حياتهم استناداً لمبدأ الحقوق لكل طرف والتي يجب احترامها وعدم المس بها سواء كانت حقوقاً مادية أو معنوية ، فكان منطقياً وطبيعياً أن تتحول بعد تبلورها إلى كيان معنوي أو افتراضي لكنه قائم وفعال ومؤثر كجرس يقرع للإنسان كلما اقترب من خط أحمر اعتبر ما بعده خطأ أو خطيئة .

قبل الرأسمالية كان مفهوم الضمير نقياً وعفوياً ولا يتحداه إلا منحرف .

فالضمير هنا هو كيان اعتباري وغير مادي انبثق من خلايا مادية في الدماغ البشري - لا نعلم كيف - وكان في مراحل الحضارات البشرية الأولى من أهم ضوابط السلوك إن لم يكن الضابط الأهم اطلاقاً ، وظهرت الأديان والحركات الإصلاحية لتجعل من الضمير حكماً ومتحكماً في الفرد والمجتمع ومن يخرج عن أوامره ونواهيه يدان بطرق مختلفة .

وهكذا وصلت البشرية إلى مرحلة الاعتراف بوجود كيان اعتباري افتراضي بلغتنا الرقمية الحالية لكنه حاسم القدرة على إصدار الأحكام التي تميز بين الشر والخير .

ولكن ، وبما أن الخير والشر يعرفان بصور مختلفة تبعاً لثقافات الأمم فإن مضمون الخير والشر اختلفا ، ورغم ذلك فإن ثمة قاسم مشترك لمفهوم الضمير قبله العالم كله تقريباً في القرون الماضية وتمثل في قاعدة جوهرية وهي التمسك بأقصى ما يمكن بأن نتمنى للغير ما نتمناه لأنفسنا ، مثل عدم قبول الاعتداء على الغير ولا سرقتهم مادياً ولا السطو على حقوقهم الاعتبارية كالأسبقيات في الدور والخدمة ولا الغدر بهم ، والتعايش بسلام معهم واحترام العهد والوعد والتمسك بالصدق ورفض الكذب واحترام تقاليد كل أمة ... الخ .

قوانين القرون الماضية اشتقت من خلاصات الضمير تلك لتنظيم الحياة البشرية على أسس التعايش لمنع كوارث العدوان والتجاوز على الغير والتي شهدتها الفيات ما قبل التحضر حيث كان الإنسان يستولي بالقوة على ما يحتاجه دون الاهتمام بحقوق الآخرين ، ولوجود أنماط تفكير بسيطة وخالية من التعقيد والتناقضات الكثيرة فإن الوضوح كان سائداً والتمييز بين الخير والشر كان سهلاً وواضحاً وهو ماجعل الضمير الحاكم الأعلى للبشر إلا نسبة قليلة منهم شذت عن القاعدة وبقيت تخالف الضمير وأحكامه فكان هناك الحرامية والمجرمين والكذابين والمراوغين ... الخ ، وكانت هذه النسبة مدانة .

في كل أنظمة القهر والاستغلال كانت أول دعائم عملها هي دعامة تغييب الضمير فالظلم والقهر والاستغلال أعمال مدانة ومرفوضة ضميرياً ، لهذا كان لابد من وجود وسائل تعطيل للضمير فكان الإفساد والفساد وابتزاز الحاجة وتضليل الناس بتشويه وعيهم وغسل أدمغتهم عبر الإعلام هي أبرز تلك الوسائل ، ولكن الرأسمالية تجاوزت في قمعها للضمير كافة النظم السابقة لها دون أي شك فهي نظام قام أصلاً على إلغاء الضمير بجعل الاستغلال البشع قاعدتها الأساسية واحتاجت لأجل السيطرة إلى تضليل الناس وكان الإعلام والأكاديمية وكافة العلوم التي تكتشف طبيعة الإنسان أو بعضها هي أسلحتها الأشد فاعلية ، لهذا أخذت ظاهرة عدم التزام النسبة القليلة من الناس بأحكام الضمير تتطور حالتها ودورها وتزداد نسبتها العددية بسرعة ولم تعد كتل كثيرة تهتم كثيراً بالضمير والقانون والأخلاق ! ، بل أن الثقافة كلما ازدادت في ظل الرأسمالية فتحت أبواب إنكار الضمير بمحاججات فكرية تقنع أصحابها بأن الضمير كيان افتراضي غير موجود وأن الإنسان يقرر ما يريد طبقاً لحاجته أو مصالحه الفردية .

ثمة مثقف واع وقع تحت تأثيرات تفاعل كل أنماط القهر التي ظهرت في التاريخ الإنساني وتركت آثارها النفسية في الناس حتى وإن كانت تمت السيطرة عليها لاحقاً أو في وقتها ، لكن ، ما قامت به الرأسمالية كان نبش مقابر الظلم التي دفنت منذ الفيات وقرون وتركت آثاراً نفسية متنحية أو ذكريات تاريخية عنها فجاءت مظالم الرأسمالية الغربية وأخطرها تجريد الإنسان من إنسانيته بعد أن حصل على حقوقه بالنضال والتضيحات فوجد أنه أمام استيقاظ كل أنواع الشر والخداع التي نامت أو خدرت خصوصاً بعد أن حولت الرأسمالية الإنسان إلى سلعة أو روبوت يُستغل حتى تجف عظامه وتنخر ! .

واستخدمت الرأسمالية الإعلام – وآخر أشكاله - الانترنيت - كقوة جبارة لإضعاف الضمير أو منع جرسه من الرنين للتنبيه وتدريب الناس على التسابق لفعل الشر تحت غطاء المصلحة الفردية ! ، وهكذا استعادت ذاكرة البشر كل مظالم التاريخ ودمجتها بمظالم الحاضر لينتج تفاعلها أفكاراً متشائمة سادت نسبة ليست بالقليلة من الناس ودفعتها لما يسمى الآن بازدواجية المعايير ليس بالنسبة للدول الكبرى الناهبة فقط بل بالنسبة لناس عاديين لا يستطيعون مقاومة الوسائل المتطورة والتي وصلت حدود تغيير جينات الناس والتلاعب بعقولهم بطرق جهنمية لم يسبق لها مثيل .

فتلفيق التهم والغدر سمات تكاثرت كالأرانب وكانت تعبيرات عن رد فعل من وقع في شباك الإعلام أو المخابرات واختار التكيف مع عالم بلا ضمير تتكاثر فيه أفاعي الغدر ، ونرى أخوة يوسف يحملون خناجر حسن الصباح وهم يستعدون للغدر بالأخ وهم يخاطبونه بعبارة ( حبيب قلبي ) بلا تردد والابتسامة تعلو محياهم ! ، وفي هذه اللحظة يواجه الضمير أزمة إنسان يزداد خبثاً كلما زادت ثقافته وهو ما يساعده على التبرير وتحييد الضمير ، مع إبقاء الصورة الجميلة للشخص لطمأنة الغافلين ، وهنا يكمن الخطر الأكبر على البشرية .... يتبع .

Almukhtar44@gmail.com

30-9-2018

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page