ولاء سعيد - عندما تُقمع هذه الأصوات في فرنسا
- كاتبة مقيمة في فرنسا
- Jan 23, 2019
- 5 min read

وقّع ثمانون شخصية من الوسط الباريسي " الثقافي " على عريضة يدينون فيها فكرة " إنهاء الاستعمار" التي يدعو إليها حزب " السكان الأصليون للجمهورية " ، والذي يطالب الحكومات الفرنسية منذ تأسيسه في 2005 بمساواة الفرنسيين المهاجرين من أصول عربية وأفريقية وغيرها من سكان الضواحي بالمواطنين الفرنسيين الآخرين في إطار القيم الجمهورية .
ويدّعي الموقعون على العريضة أن هذا الحزب ، ومعه جمعيات من المجتمع المدني ، وبحجة مفهوم " إنهاء الاستعمار " ، يهدفون إلى الهيمنة ويثيرون فكرة العرق ، ناعتين شخصيات معروفة ، مثل ماري ضياي ، الحاصلة على جائزة - الكونغور ، الفرنسية الأدبية الرفيعة ، عام 2009 ، ولاعبي كرة من أصول أفريقية ، مثل تورام ، وكان سابقاً في الفريق الوطني الفرنسي ، بأن ما يقولونه محض هراء ، وأن المحيط الإعلامي الحديث يعطيهم الكلام ، ليعبروا عن " أحقادهم وسوداويتهم " التي تلقى أصداء خطيرة لدى " طبقات غير مثقفة " ، ما من شأنه أن يؤدي إلى ما سموه الحقد الطبقي والعرقي .
ليس هذا فحسب ، بل طالب هؤلاء المثقفين المتشدقين بالديمقراطية ، والمؤسسات العلمية والجامعية والقضاة ، وأماكن انعقاد المؤتمرات والندوات ، برفض أي طلبٍ من هذه الجمعيات لاستخدام قاعاتها وعقد ندواتها ، لأنها " تعكّر صفو المجتمع ، وتبث الحزازات والأحقاد " . تأتي هذه الدعوة في عهد الرئيس ماكرون ، وسبقتها إجراءاتٌ اتخذها قبله الرئيسان السابقان ، نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند ، وبينما استهدفت الإجراءات السابقة من الداخلية الفرنسية كل ما يخص القضية الفلسطينية والاحتلال الصهيوني ، ومحاربة أنشطة بشأنهما ، وأحياناً اعتقال نشطاء حملة المقاطعة ضد إسرائيل ، فإن هذا البيان الذي نشرته مجلة لوبوان وقّع عليه ناشطون عديدون في المجتمع المدني في مجال حقوق الإنسان من السود وضد التمييز العنصري الذي تتزايد حدّته في فرنسا منذ سنوات .
ولعل استهداف الجمعيات الناشطة في هذا الميدان ما هو إلا حجة لمنع توسع حملة مقاطعة إسرائيل المتزايدة في أوروبا ، وفي الجامعات الأميركية ، وأصبحت مصدر قلق للدولة العبرية .
إن تحليلاً سريعاً للخطاب الذي وقعته المجموعة نفسها التي تحتل المشهد الباريسي الإعلامي والثقافي منذ عقود ، وملّها الجمهور الفرنسي ، من كثرة تكرارها الموضوعات نفسها في الدفاع عن الاحتلال وسياسة حكوماته ، وخصوصاً تأليب الشعب الفرنسي بعضه على بعض ، ودعم الشخصيات العنصرية حصرياً ضد العرب والمسلمين ، إن هذا التحليل يظهر تناقضات هذه المجموعة ونياتها السيئة والمقصودة ضد جزءٍ من الشعب الفرنسي ، أي الفرنسيين من أصول عربية .
ولن تكفّ هذه النخبة عن حربها ، لا اليوم ولا غداً ، فهي مستمرة ما دامت الحرب قائمة في منطقتنا ، تعمل بترتيب لإزاحة هذا أو ذاك ، هذه الجمعية أو تلك ، ودعوتها هذه ترهيبية للمؤسسات الفرنسية ، وفي مقدمتها المؤسسات العلمية الجامعية والبحثية التي استقبلت طارق رمضان ، والذي أُلصقت به تهمة اغتصاب نساء ، لتبرئه المحكمة فيما بعد .
كما استقبلت هذه المؤسسات حلقة بحثية عن التمييز العنصري في الدراسات الاجتماعية الحديثة ، شاركت فيه أنجيلا ديفيز ، إحدى أشهر رموز النضال من أجل الحقوق المدنية في الولايات المتحدة ، ورفيقة مارتن لوثر كنج ، زعيم حركة السود الذي اغتيل لوقوفه ضد حرب فيتنام ، جنباً إلى جنب مع الناطق الرسمي لحزب " السكان الأصليون للجمهورية " ، حوريه بوتجله ، المرأة التي تغضب أصحاب هذه التواقيع ، بصراحتها وفضحها خطاب المثقفين الفرنسيين الداعمين للاحتلال الصهيوني وللخطاب العنصري المكرّس ضد العرب بامتياز .
يقول الموقعون على هذه العريضة إن هؤلاء يقدّمون أنفسهم أنهم تقدميون مناهضون للعنصرية ، وضد الاستعمار ، ومع حقوق المرأة ، لكنهم في الحقيقة يسرقون نضال هذه القضايا .
والمتابع لهذه الأوساط يدرك أن هناك خوفاً من هذه الجمعيات التي تتصدّر اليوم مشهد القضايا العالمية العادلة ، ما أزعج هذه الشخصيات التي تعتقد أنها الوحيدة صاحبة الحق في فرنسا لتعطي رأيها في القضايا الإنسانية . ولذا لم ترُق لها مشاركة حزب " السكان الأصليون للجمهورية " في ندوة علميةٍ مع جامعات وباحثين وأساتذة أميركان وبريطانيين متخصصين في العلوم الاجتماعية والأنثروبولوجية بشأن العرق والأمة والعلمانية ، بحضور لافتٍ ومهمٍ لأساتذة وطلاب جامعات ، وإلقاء بحوث علمية رصينة وقيمة تعدّ بداية لدراسات في هذا المجال غير الموجود في الجامعات الفرنسية بشكله المطروح ، وأن يتبوأ هذا الحزب مكانه ، ويلقى سمعة محترمة في الأوساط الجامعية الأوروبية والأميركية .
وعليه ، تجب شيطنة هذه الجمعيات ، وإسقاط رموزها ، كما تمت شيطنة المفكر طارق رمضان ، أستاذ العلوم الإسلامية في جامعة أكسفورد. وليس مصادفةً أن تأتي العريضة في وقت تبرئة رمضان ، لمنعه من العودة إلى نشاطه وندواته في المؤسسات الجامعية والبحثية في فرنسا .
ليس ذلك فحسب ، فهذه النخب تشعر منذ سنوات بأن الفرنسيين لم يعودوا يهتمون بآرائها ، وملّوا تكرارها وخطابها المزدوج ، وهي أيضاً تلوم هذه الجمعيات بحجة أنها تمنع تعددية الخطاب ، وتريد فرض الحجاب والعنصرية والتمييز العنصري ومسألة المرأة المسلمة ، كما " تدين " تقوقع من فيها على الهوية ، وإدانتهم بشدة عنصرية الدولة الخطيرة في فرنسا .
وتبدو هذه النقطة متناقضة مع حملة تواقيع هذه الشخصيات ، فهي من تريد إزاحة هذه الجمعيات ، وتدين خطابها ، وتصفه بالعنصري ، وبإقصاء الآخر ، بينما هي من يمارس ذلك منذ بداية غزو العراق ، وحملة التواقيع هذه أكبر دليل .
وتدعم هذه الشخصيات الأقليات والانفصاليين في العراق وسورية ولبنان ، وتتبجّح بأنها مع حقوق الأقليات في هذه البلدان ، فلماذا تنكر على العرب والأفارقة الكلام والانعتاق ، وترغب في أن يصمتوا ويختفوا عن المشهد السياسي والإعلامي ، وفرنسا بلد المواطنة والجمهورية والديمقراطية ؟ .
لا تكتفي هذه الشخصيات بطرح أفكار ضد جمعياتٍ قانونية من المجتمع المدني ، معترف بها ، وتمولها الدولة الفرنسية نفسها ، لكنها تدينها لتفنيدها ونقدها خطاب بعض الشخصيات العنصرية التي تحتل المشهد الإعلامي الفرنسي ، وساهمت في تأجيج العنصرية بين الشعب الفرنسي ضد العرب والمسلمين ، بشهادة منتجي البرامج أنفسهم الذين يعملون معهم، حتى وصل بهم الأمر إلى حد الاعتذار ، والقول إنهم يعترفون بأن بعض الصحافيين العاملين معهم قد أوغلوا في الخطاب العنصري كثيراً ، وساهموا بتوسيع رقعته في فرنسا .
هنا، تبرز بوضوح النيات السيئة لأصحاب التواقيع تجاه أصوات الفرنسيين من أصول مهاجرة عربية وأفريقية ، فلماذا يكون لهذه النخب الحق في الكلام والتعبير عن آرائها بشأن القضايا الإنسانية العالمية والوطنية ، ولا يحق للمواطنين من أصول عربية وأفريقية أن تكون لهم آراؤهم وأصواتهم المختلفة ؟ ، من هو العنصري ومن هو صاحب الخطاب المزدوج ؟ ، عند بدء الحملة ضد المفكر طارق رمضان ، صرّح رئيس منظمة أطباء بلا حدود سابقاً ، روني برومان ، وأستاذ العلوم الاجتماعية ، أيريك فاسان ، إن قضية رمضان تعيد الهجمة التعسفية على ممثلي الحركة المضادة للعنصرية .
بدأت أولى نتائج إرهاب هذه التواقيع المدعومة بتجميد التبرّعات لحملة المقاطعة للكيان الصهيوني ، وهي تُثبت أن حملة التواقيع هذه لا تهتم بتصفية الجمعيات الأفريقية بقدر اهتمامها واستهدافها النشاطات الداعمة للقضية الفلسطينية لتصفيتها بالكامل ، بتوصياتٍ وطلبٍ من مجلس المؤسسات اليهودية ( لوكريف ) ، اليد الطولى لحزب الليكود الإسرائيلي ، والتي كانت قد بدأت مع الرئيس الأسبق ساركوزي .
ليتذكر هؤلاء الذين يصدّعون رؤوسنا بمبادئ الجمهورية وحقوق الإنسان وحقوق الأقليات ، أنهم كانوا أول الداعمين لغزو العراق وتدميره ، واستخدام الأقليات ورقة يتلاعبون بها، من أجل مصالح الهيمنة الاستعمارية ، ولو كان الجنرال ديغول هنا ، لرد على الموقعين ، وعلى السلطات الحكومية الداعمة لهم : لا نكمم صوت فولتير ، كما قالها ، حينما تم توقيف سارتر المناهض وقتها لحرب الجزائر .
コメント