top of page

الرفيق المجاهد صلاح المختار - جدلية القومية والدين والطائفة " الحلقة الأولى "



جدلية القومية والدين والطائفة

" الحلقة الأولى "



تناولت بكتاباتي منذ سبعينات القرن الماضي داخل وخارج العراق العلاقة بين القومية والدين لكشف العوامل المخابراتية التي حركت وتحرك الموجة الإسلاموية الخطيرة ، وبعد تصعيد المخطط المبني على إشعال صراعات مدمرة إسلامية – إسلامية ، ثم سنية – شيعية ، ثم سنية - سنية وشيعية – شيعية تناولت الموضوع بعمق أكبر وذلك لتوفر التطبيق العملي لكافة المفاهيم المتعلقة بالدين والقومية وسقوط الأقنعة التضليلية وانكشاف المحرك المخابراتي الرئيس لتلك الفتن .

والآن ونحن نشهد وصول تلك الفتن والتشرذمات قمتها والامعان في استهداف القومية العربية بواسطة استغلال الدين والطائفة حان وقت مناقشة جدلية العلاقة بين القومية والدين والطائفة .

تحت أنظارنا كنز هائل من الحقائق تبلورت على الأرض وليس في النظريات فقط حول قوة تأثير القومية والدين والطائفة على البشر خصوصاً بعد ظهور داعش والذي توج ما بدأته القاعدة في أفغانستان ونقلته للوطن العربي ، وما بلورته الخمينية ونظريتها الأساسية وهي ولاية الفقيه والتي تحاول تصديرها لنا وتوج ذلك بالغزو الاستعماري الإيراني للعراق وسوريا والمحاولة المسلحة لغزو اليمن والسيطرة الابتزازية على لبنان والاعراب العلني عن مطامع إسرائيل الشرقية في دول الخليج العربي وغيرها .

لذلك ، نستطيع الآن حسم الكثير من القضايا التي كانت نظرية ويصعب الجزم بها ولكننا نراها مطبقة عملياً وذلك دليل يحسم أي نقاش .

أول الحقائق ، حقيقة زمنية فرضت نفسها وأكدتها خمسة عقود من الأحداث الخطيرة وهي ، أن القومية أقدم بكثير من كل الديانات والطوائف ، ولهذا فهي أعمق تغلغلاً في التكوين البشري من الديانات ناهيك عن أنها وسيلة تفاهم لأنه بدون اللغة القومية لا تفاهم ولا اتصال ولا مجتمع ولا دين ، فقط راجعوا التاريخ حتى المزور الذي كتبه الغرب الاستعماري ترون أن اللغة العربية سبقت اليهودية والمسيحية والإسلام بآلاف السنين ولها جذور في فترة ما قبل انتهاء العصر الجليدي الأخير وآثارها موجودة في أغلب بقاع العالم من أوربا إلى الأمريكتين الشمالية والجنوبية مروراً بأفريقية وهو ما سنتطرق له ، وطبقاً لذلك ، الدين لاحق للقومية وعبر عنه بلغة قومية وبدون تلك اللغة ما كان ممكناً ظهور أي دين .

لننطلق من هذه الحقيقة التي لا يمكن انكارها في بحث عدة قضايا تتعلق بالقومية وعلاقتها بالدين والطائفة ، وهنا لابد من التأكيد على أن من يريد معرفة الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع عليه أولاً أن يترك خارج تفكيره ما كتبه الغرب لنا وما دُسَّ في مناهجنا الدراسية وثقافتنا الرسمية من تزويرات فجة أخذت تتهاوى أمام زحف الحقائق المادية المعبر عن بعضها بما قدمه العلم في الغرب ذاته وليس عندنا ، خصوصاً علم الجينات الذي أثبت أن جنوب ووسط أوربا كانت وطناً للعرب قبل الأوربيين الحاليين بأربعين ألف عام وهم زحفوا حتى وصلوا اسكندنافيا ووجدت آثارهم فيها ، وهو ما سنوضحه .

القومية قبل كل شيء تربية ثقافية - عائلية - مجتمعية وهوية تعريف بالانسان في آن واحد ، وأهم وظائفها أنها وسيلة تواصل بشرية وليست أيديولوجية كما يدعي البعض للحط من شأنها ، فأنت لا تستطيع التفاهم مع غيرك إلا باللغة بينما الدين يمكن الإيمان به بواسطة أكثر من لغة ، وهنا نرى أهم مصادر الالتباسات الدينية التي تفسر النصوص تبعا للثقافة القومية وخير مثال هو التفسير الفارسي للاسلام وما نتج عنه من كوارث نعيش احد اخطر فصولها منذ وصل الإسلامويون للحكم في إسرائيل الشرقية .

إننا نواجه ثنائية مربكة جداً وهي أن القومية أكثر تشعباً وتغلغلاً في تكوين الإنسان الثقافي والتطبيقي أي العملي والتواصلي من أي دين معروف ، فبدون اللغة لا تواصل ولا تفاهم بين البشر فهي إذاً حاجة مادية ووجودية وليست نظرية ولا أيديولوجيا ، بينما الدين يتميز بأنه بناء أيديولوجي أكثر قوة وتأثيراً من القومية عندما يتعلق الأمر بالإيمان بالله وهي حالة روحية قوية جداً وهائلة التأثير على الإنسان ، ولكن ما أن يتعرض الإنسان العادي للتحديات المميتة حتى نرى حقائق قوة كل من الدين والقومية ومدى رسوخهما في التركيب النفسي للناس .

وهنا من الضروري ملاحظة ما يلي بانتباه مستمر : فثمة فرق نوعي بين إيمان الطليعة الدينية والقومية والطائفية ، وهي النخب المثقفة والواعية ، وبين إيمان الناس العاديين بكل تلك العلاقات ، فلئن كانت الطليعة واعية بما تؤمن به وتدرس أو تعيد النظر فيما توارثته من العائلة والمجتمع وهي لذلك راسخة الإيمان فإن الناس العاديين يتوارثون الإيمان الديني والهوية القومية من العائلة والمحيط بلا نقاش أو إعادة نظر أو حتى الشك بهما فتتسم انتماءتهم تلك بالتوارثية فهم يرثون ما لم يختارونه ولا يعون إلا القليل منه ويعوضون عن نقص الوعي بدوغما Dogma ( مسلمة ، جمود ، تصلب ، تطرف ... الخ ) الإيمان ومنع النقاش حوله ورفض المس به أي تحويله إلى تابو ( مقدس ) ممنوع التعرض له أو التشكيك به ، وهذه الحالة ورغم أنها مصدر التطرف الديني إلا أنها بنفس الوقت المصدر الأول للردة الدينية والتحول من دين لآخر أو من طائفة لأُخرى ، هنا نستطيع تفسير الأسباب التي تجعل تبدلات الناس ممكنة تحت ضغوط معينة حتى في الدين والطائفة بينما تبقى الهوية القومية راسخة رغم الضغوطات لأنك تستطيع التخلي عن طائفتك ودينك عندما تتعرض للتهديد وأنت بوعي سطحي ولكنك لا تستطيع التخلي عن لغتك تحت أي ضغط مادامت وسيلتك الوحيدة كبشر للتفاهم مع غيرك ، بدليل أن المهاجر العربي وغير العربي لا يستطيع الفرار من هويته القومية واللغوية حتى مماته ويكون خلال وجوده في المهجر أسير هويته الأصلية بلا شك ، وتبدأ عملية تغيير الهوية في الأجيال الجديدة التي تولد في المهاجر وتفقد صلتها اللغوية والثقافية بالأمة تدريجياً ، وهذا يشمل المثقف الواعي أي الطليعي والإنسان العادي فتعبيرات الهوية القومية بهذا المعنى راسخة ولا تتبدل إلا بصورة طفيفة جداً حتى في ظل تحديات قوية .

ولكن وعلى النقيض من ثبات الهوية القومية لاحظنا أن الضغوط المميتة على العراقيين بعد الغزو أدت إلى بروز ظاهرة لم تكن موجودة وهي تغيير الطائفة بل وتغيير الدين من قبل بعض عامة الناس ، خوفاً أو انتهازاً للفرص ، أما بعض من انتموا للطليعة الدينية وهم من تثقف فإن تنقلاتهم الدينية والطائفية أقل بكثير ، رغم أن الطليعة المثقفة شهدت أيضاً تحولات في الدين والطائفة أما خوفاً في داخل العراق وسوريا واليمن مثلاً ، أو بعد التحرر من عوامل الردع في المهاجر وطغيان التثقيف العائلي السري للدين السابق للإسلام فترك البعض الإسلام ، وأنا أعرف مثقفين عراقيين اعتنقوا المسيحية في المهجر لسطحية إيمانهم الديني وتوارثه ، كما أن هناك ظاهرة أُخرى رأيناها في المهجر وهي أن الكنائس وبعض الحكومات الأوربية كانت تمنح اللجوء للمسيحي وتعرقله أو تمنعه بالنسبة للمسلم فصار هذا يساعد على تهديم الانتماء الديني بالنسبة للبعض ، والتحول نحو المسيحية ، لأنه كان هناك من يعرض عليه التخلي عن الإسلام مقابل منحه اللجوء !!! ، وفي حالة أقل تشدداً فإن المسيحي تعد له الشقق قبل وصوله وعندما يصل ينقل فوراً بباصات إلى شقة مؤثثة ويمنح كافة حقوق اللاجئ ، بينما المسلم يوضع في معسكر لفترة طويلة تتجاوز السنة وهناك يتعرض للكثير من المضايقات ، لماذا حصل التنقل بين الأديان والطوائف بينما بقيت الهوية القومية ثابتة حتى ممات المهاجر ؟ ، ولِمَ فشلت محاولات إزالة الهوية القومية في العراق وسوريا بينما نجحت بعض عمليات تغيير الهوية الطائفية في بعض المناطق فيهما ؟ ، السبب واضح وهو أن الهوية القومية أداة عيش وتفاهم باللغة والتقارب الثقافي عبر اللغة الواحدة أو المشتركة فهي حالة لا صلة لها بمكونات فكرية أو أيديولوجية تقبل أو ترفض كما في الدين والطائفة فأنا عربي وأستطيع التحدث مع العربي من الجزائر وموريتانيا وفي المهجر الاوربي وفي أمريكا وفي السودان بلغتي ولغته الأم دون عوائق ، وهذه اللغة ولدت ثقافة مشتركة أقدم من ثقافة الدين والطائفة وأكثر رسوخاً ، فأنا أتعايش تلقائياً مع كل إنسان عربي من أي دولة وديانة وإثنية بكل سهولة ، بل كنا قبل عصر الفتن الطائفية المصطنع لا نعرف دين أو طائفة العربي الآخر الذي نتعايش معه ولا نتجرأ على السؤال عن ذلك لأن هويتنا الجامعة والراسخة هي العروبة أولاً وقبل كل شيء .

ولعل أهم ما في الهوية القومية هو أنها لا تفرض على العربي ديناً معيناً ولا طائفة معينة ولا وضعاً معيناً سوى القدرة على التحدث بالعربية والتشبع بثقافتها والاعتزاز بتاريخ العرب بينما الثقافة الدينية والطائفية تجبرني على مناقشة أيهما أفضل ديني أو طائفتي أم دين وطائفة العربي الآخر ! ، وهنا نرى عامل التشرذم والفتن العمياء في بنية الطائفية .

ومن المفارقات المدهشة التي نراها هو أننا رأينا تحولات دينية ولو محدودة من الإسلام للمسيحية في وقت يشهد الغرب خصوصاً أوربا وأمريكا تحولات كبيرة من المسيحية إلى الإسلام وهي ظاهرة تفرض طرح السؤال التالي : لماذا ينتشر الإسلام في الغرب بينما نرى العكس لدينا ؟ ، لم هذا التناقض في نفس الظاهرة ؟ ، هل لأن القومية ليست مجرد إيمان سواء كان واعياً أو متوارثاً ، وإنما هي هوية اتصالية في المقام الأول بينما الدين والطائفة إيمان ديني يتعلق بالصلة بالله وبرسله وبمن يضاف إليهما في المقام الأول ؟ .

...... يتبع .

Almukhtar44@gmail.com

3-3-2019

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page