الرفيق المجاهد صلاح المختار - جدلية القومية والدين والطائفة " الحلقة الثانية "
- مفكر قومي
- Mar 5, 2019
- 7 min read

جدلية القومية والدين والطائفة
" الحلقة الثانية "
القومية التي نعنيها ليست تلك التي تصور على أنها نتاج التأثر بالغرب ، لأن النهضة القومية ليست موضة ملابس كي تتحقق الرغبات بسرعة ، بل هي تقوم فقط بوجود شروط ومستلزمات نهوضها ، وفي حالة غيابها لا يمكن لأي تأثير أن ينشأ حركة قومية ، مما يجعل وصف القومية العربية بأنها نتاج التأثر بالقوميات الأوربية تضليل متعمد أو جهل ، فقد أثبتت الاكتشافات الجينية والتاريخية أنها نظرية استعمارية استشراقية ملفقة تماماً روجها الغرب ( أوربا أولاً ثم أمريكا ) عبر مخابراتهما ومعاهد بحوثهما وانغمست الصهيونية العالمية في المخطط الكولنيالي لأنه وفر إمكانية تحقيق حلم توراتي قديم ، ثم تبنتها الحركات الإسلاموية لأجل شيطنة القومية العربية ، باعتبارها ( القومية العربية استنساخ من القوميات الأوربية ) لأجل إدانتها .
ولكي نجهز على هذه النظرية لابد من تأكيد أن الأمر معكوس تماماً ، فالقومية العربية التي تعرف وتعرّف بلغتها وثقافتها كانت موجودة قبل أي قومية أوربية بآلاف السنين حينما كان قسم من أوربا مغطى بالجليد والقسم الآخر كان صالحاً للسكن وسكن العرب جنوب ووسط أوربا ( انظر درساتنا الموسومة بـ" المستشرقون وعروبة العراق المنشورة في شبكة البصرة بعدة أجزاء بتاريخ 25-7-2014 " ) ، والتي نقلت فيها عن علماء جينات اكتشاف أن العرب هاجروا من وادي الرافدين إلى جنوب ووسط أوربا في فترة ما بين 10و40 ألف عام وشكلوا نسبة 80% من رجال أوربا وقتها والأثر الجيني مازال موجوداً حتى الآن ، بل أن عرب وادي الرافدين نقلوا الماشية منه إلى أوربا ، فالماشية الأوربية الحالية أصولها عربية طبقاً لدراسة جينية ألمانية ، ولهذا لا يمكننا معرفة الحقيقة وما جرى فعلاً في التاريخ إلا إذا تابعنا تاريخ نشوء اللغة العربية وتكاملها ، فالتشكل القومي العربي بدأ مع ظهور اللغة العربية حتى وإن لم تظهر الدولة القومية وقتها فالدولة القومية تظهر لاحقاً بعد ظهور الهوية القومية المعبر عنها أصلاً باللغة ، وهذا ما رأيناه في أوربا كمثال تطبيقي حيث أن القوميات الأوربية وهي حديثة وعمرها بضعة مئات من السنين ظهرت بعد انفصال كتل بشرية عن أصولها اللغوية اللاتينية والسلافية والآرية وغيرها وتكونت هوية مستقلة : قومية فرنسية وأُخرى ألمانية .. الخ .
في اللغة العربية ذاتها الدليل الحاسم على أن عمرها يتعدى التاريخ المعروف ، إذ يكفي البحث في مفرداتها وسعتها للتأكد من أنها أقدم لغة حية في العالم فهي تمتلك أكثر من 12مليون و300 ألف كلمة ، أما الانكليزية فتبلغ 600 ألف كلمة والفرنسية تبلغ 150 ألف كلمة ، فاللغة العربية أوسع اللغات في العالم وأكثرها دقة في التعريف والتعبير والوصف ، وفيها تعبيرات دقيقة عن كل البيئات المتناقضة : الصحراء والمناطق الاستوائية والباردة ، فكيف تسنى للغة الصحراء هذه أن تشمل كل هذه الثراء الفريد فيها إذا كانت لغة صحراء كما يدعي المستشرقون ؟ .
من بديهيات علم اللغة أن كل مفردة لغوية تصف حالة قائمة تشاهدها وتختار اسماً لها فكيف تكون هذه اللغة التي تصف الفيل والأسد والقرد لغة صحراء وتلك المخلوقات لا توجد فيها ؟ ، اللغة تحتاج لزمن طويل كي تتوسع وتتكامل قواعدها وقواميسها ، إذاً : كم احتاجت اللغة العربية كي تتكون مقارنة باللغة الانكليزية التي نشات ببضعة مئات من السنين ؟ ، ألا تحتاج لغة عدد مفرداتها أكثر من 12 مليون و300 ألف كلمة لزمن يبلغ عدة أضعاف ما احتاجته اللغة الانكليزية للتكون ؟ ، إن اللغة العربية بمفرداتها فقط تؤكد أنها تعود لما قبل العصر الجليدي الأخير وتنوعها الشامل لكافة البيئات في الكرة الأرضية يؤكد أنها كانت لغة عالمية سائدة في زمن يتم التجهيل به من قبل الغرب لأنه يفضح تلفيق التاريخ المعروف .
لقد كشفت الخريطة الجينية كما أشرنا عن حقائق مذهلة كان الغرب والصهيونية والفرس يخفونها عمداً إن عرفوها ، وهذه المعلومات تسند طرح سؤال مبني عليها وهو : إذا كان العرب قد هاجروا من وادي الرافدين إلى أوربا قبل ما بين 10-40 ألف عام ، ألا يعني ذلك أن هجرتهم من اليمن إلى الشمال هي هجرة ليست الأولى وإنما واحدة في سياق هجرات متعددة في التاريخ ؟ ، ثم كيف يمكن استبعاد احتمال قوي بأن الهجرة من العراق لليمن كانت هي الأصل قبل كل الهجرات من اليمن للعراق وسوريا وغيرهما ؟ ، وهناك الكثير من الأدلة القوية جداً على أن اللغة العربية كانت أصل اللغات الأوربية الحالية وكتب عن ذلك الكثير ، ولعل حقيقة أن اللغة الأمازيغية كانت سائدة في شبه الجزيرة الأيبيرية ( اسبانيا والبرتغال ) تدعمها حقيقة أخرى ، وهي أنه حينما وصل العرب إلى اسبانيا بقيادة طارق بن زياد تحدثوا من السكان الأصليين هناك باللغة الأمازيغية وهي لهجة أصلها يمني ومازالت حية حتى الآن في اليمن ، أي أن العرب وصلوا أوربا قبل الإسلام بفترة طويلة عن طريق منافذ محددة وهي : المغرب العربي وتركيا وإيطاليا وفرنسا واسبانيا وسكنوها قبل وصول أي أوربي ، فالوصول إلى أوربا وكما نراه في هجرات اللاجئين الآن يجري من هذه المنافذ .
وكشفت دراسة اسبانية يوم 3-3-2019 عن وجود أكثر من ثلاثة ملايين عربي من نسل الأمويين في اسبانيا فقط يحتفظون بالوثائق التي تثبت عروبتهم ، ألا يعني ذلك أن أوربا كانت عربية الهوية وقتها ؟ ، والغرب وهو منغمس في حمى معاداة العرب تاريخاً وهوية لا يخفي حقائق التاريخ الأكثر قدماً فقط بل هو أيضاً يعتم على التاريخ الوسيط حتى في أوربا وقصة الملك البريطاني أوفا مهمة جداً لإيضاح كيف تتم عمليات الاخفاء لما لا يريد الغرب معرفته ، فهذا الملك الأنجلوسكسوني حكم إنجلترا 39 عامًا اعتبارًا من 757م حتى 796م ، في عام 1841م تم العثور على قطعة نقد ذهبية غريبة تعود لعهد هذا الملك الإنجليزي في أحد وجهي القطعة توجد كتابة باللغة العربية وهي “ لا اله إلا الله وحده لا شريك له ” ، وفي الحافة كتبت عبارة “ محمد رسول الله ”، ثم الآية الكريمة “ أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ” ، أما في وسط الوجه الثاني فنجد كتابة عربية أخرى وهي “ محمد رسول الله ” ، وفي وسط هذه الجملة سجل اسم الملك “ أوفا ” باللغة الإنجليزية ، أما في الحافة فقد كتب باللغة العربية : “ بسم الله .. ضرب هذا الدينر سبع وخمسين ومائة ”.. هل كان الملك أُوفا مسلماً كما يقول كثيرون ولكن بريطانيا الرسمية تخفي الأمر وتحذف كل ما يتعلق بهذا الملك من التاريخ ؟ ، لا نعلم شيئًا عن كيفية إسلامه ، ويرجع السبب في هذا إلى أن الكنيسة الإنجليزية قامت بالقضاء على كل الوثائق العائدة لهذا الملك ! ، والشيء الأكثر غرابة هو أنه لا الموسوعة البريطانية ولا الموسوعة الفرنسية “ لاروس ” تشيران إلى هذه الناحية بل تهملانها تمامًا ،.. ( المصدر : أرشيف أون لاين ) .
وهذه الحقائق الميدانية تؤكد بأن القومية العربية أقدم بآلاف السنين من الديانات اليهودية والمسيحية والإسلام وغيرها وهي لذلك هوية أرسخ من ناحية الممارسات الدينية كالتواصل والتفاهم بين البشر ، والدين بذاته لا إمكانية لنشره بصورته الصحيحة بدون اللغة العربية وهذا ما نلاحظه مثلاً في الخرافات والتلفيقات التي ظهرت لدى بعض المسلمين غير العرب .
وما سبق يمهد لطرح السؤال التالي : لماذا اعتمدت المخططات الكولونيالية الأوربية والامبريالية الأمريكية على دعم رجال الدين ومنظمات سياسية إسلاموية ضد القومية العربية ؟ ، منذ قيام الوحدة المصرية – السورية ( 1958-1961) شهدنا هجمات شرسة ضد القومية العربية كانت أداتها الرئيسة الحركات الإسلاموية ونظم معينة ، وكان من أهم أسباب دعم الغرب لها هو أنها تقوم على آلية بنيوية هي التشرذم المتسلسل والمستمر من الدين إلى الطائفية ، شيعة وسنة ، إلى تمزق الطوائف ، قتال سني – سني وقتال شيعي – شيعي ! ، القوى الإسلاموية وهي تستقطب الجماهير لا توصلها لمرحلة الانتصار على أمراض المجتمع العربي كالتخلف والفقر والأمية والتبعية والاستبداد بل تستخدمها لتكريس كل تلك الأمراض ومنع النهضة العربية التقدمية لأن تكوينها القائم على التشرذم الدوري والمستمر يمنع الاستقرار الاجتماعي وهو الشرط الأول للتنمية المستدامة وبناء أسس النهضة الحضارية ، وهي بحكم تكوينها الأيديولوجي معادية للتقدم لهذا تضع القوى التقدمية كعدو لها تحاربه أكثر مما تحارب الغرب والصهيونية وتجارب العرب أكدت هذه الحقيقة ونحن الآن نعيش الآثار التدميرية لممارسات الأحزاب الإسلاموية الشيعية والسنية .
ومن أهم مخاطر الإسلاموية أن أحد أهم أسلحتها هو الابتزاز باسم الله وهو ابتزاز مخيف لعامة الناس وهو ما رأيناه بوضوح في عراق ما بعد الاحتلال حيث سادت العمائم السود والبيض ونشرت الفساد والخراب والتشرذم المميت والتجهيل المبرمج في كل مكان ، وهنا مكمن براعة الغرب والصهيونية والقوميين الفرس في اعتبار أن الطريقة الأساسية لتفتيت الأمة العربية هي محو هويتها القومية بصفتها اللحمة الأساسية التي توحد وتقرب وتوفر التفاهم والتواصل ، وتحويل التفتيت هذا إلى خنادق متقابلة لا تلتقي أبداً ! ، ورغم العداء الظاهري بين الطائفيين السنة والشيعة إلا أنهم حينما يتعلق الأمر بموقفهم من القوى التقدمية فإنهم يلتقون ضدها ويحاربونها ويقفون مع الغرب والصهيونية ضد القوى التقدمية كما رأيناه في العراق في تبعية الحزب الإسلامي ( السني ) لإسرائيل الشرقية بكل صراحة ، وبالتالي تعرض الأمة والوطن إلى عمليات تمزق متتابعة ومترابطة هدفها انهيار الأمة بزوال الهوية القومية ، وعندما تزول هوية الأمة القومية لا يبقى دين ولا طائفة وما نراه فقط هو وجه نتنياهو وخميني وفوقهما وجه بوش الصغير .
لنجيب على التساؤلات التي طرحناها لابد من ملاحظة ما يلي :
1- يتراجع الإسلام لدينا لأن من يحكمون باسمه في العراق وإسرائيل الشرقية وأنظمة خليجية يمارسون أساليب منفّرة من الإسلام بصورة خطيرة فكل الكوارث التي نعيشها نتجت عن ممارسات هؤلاء ، فهي شيطنة داخلية للإسلام وهو ما يريده الغرب والصهيونية لأن إضعاف الإسلام الحقيقي جزء من عملية تجريد القومية العربية من روحها وهي الإسلام ، فهي ضربة للعروبة والإسلام في آن واحد .
2- أما لماذا يتقدم الإسلام في الغرب فلأن الغرب وهو يحتضر أخلاقياً بعد قرون من ممارسات لا إنسانية وتعاظم سيطرة من يملك الدولار واحتكاره للقرارات النهائية في كل شيء يشهد موقفاً كنسياً متلائماً أو صامتاً تجاه جرائم الغرب طوال قرون لذلك ازدادت ظاهرة نفور غربيين من المسيحية والتقرب من الإسلام .
3- وهناك عامل آخر مهم جداً ، وهو الخطة المخابراتية الأمريكية والبريطانية والصهيونية في توسيع شقة الخلاف الإسلامي - المسيحي عالمياً ، وليس أقوى تحريض ضد الإسلام من تأكيد أن الإسلام ينتشر وأنه خطر على المسيحية كلها لذلك لابد من تعبئة العالم المسيحي ضد ( الخطر الإسلامي الزاحف ) .
4- إعادة أجواء الحروب الصليبية تحتاج إليه الرأسمالية المحتضرة في أمريكا لمواجهة الصعود المتعظم للصين وروسيا ، فالترويج للخطر الإسلامي مع تضخيم الخطرين الصيني والروسي ضرورة أمريكية داخلية .
5- القومية العربية كانت عصية على الاستخدام المزدوج من قبل الغرب لأنها هوية أصلاً والهوية لا يمكن التلاعب بها كالمعتقد الديني ، فأنا عربي ولغتي عربية وهذه أدوات عيش وليست أيديولوجيا كالإسلاموية ، فكيف يمكن استخدام ذلك لإشعال فتنة بيني وبين عربي آخر مثلما يفعل الإسلام السياسي ؟ ، ولئن كانت الطائفية الدينية تفرق وتمزق فإن الهوية تجمع وتوحد ولا تفرق ، لذلك فإن الغرب استهدف القومية العربية بصفتها عامل توحيد للعرب يعزل عناصر التشرذم بسرعة فتبقي الصراعات بين أنظمة وأحزاب وهي صراعات يمكن السيطرة عليها بينما الصراعات الدينية والطائفية من الصعب جداً السيطرة عليها ووضع حد لها وذلك أحد أسباب كوارثنا خصوصاً في العراق وسوريا واليمن .
الخلاصة ، وطبقاً لكل تجارب العقود الستة الماضية هي أن القومية العربية مصدر قوة ووحدة الشعب وتعزيز لهوية ثقافية واجتماعية وسياسية تجمع العرب كلهم وبغض النظر عن دياناتهم أو طوائفهم لأنهم وفقاً لمعاييرها الوطنية عرب يتساوون بالحقوق والواجبات بينما الإسلام السياسي والطائفة عوامل شرذمة وتفريق وهنا نرى الأسباب الحقيقية لاغتيال تجربة عبد الناصر في مصر والبعث في العراق .
التمسك بهويتنا القومية وقبل كل شيء منارتنا في دروب التيه المظلمة والظالمة وعند السير في ضوءها تحل مشاكل خياراتنا الدينية والطائفية لأننا كنا عرباً بلا طوائف قبل الغزو الغربي - الإيراني – الصهيوني ، ويمكننا أن نعزز حالنا عرباً بلا طوائف .
Almukhtar44@gmail.com
5-3-2019
Comments