top of page

الرفيق المجاهد صلاح المختار - نقد نظرية ترييف المدينة / الحلقة الأولى


نقد نظرية ترييف المدينة

1



منذ التسعينيات تصاعدت موجة مضللة تتمحور حول نظرية غربية صهيونية قديمة تقول بأن البدو عندما زحفوا من الريف إلى المدن العربية وريّفوها – أي نقلوا تقاليد الريف إلى المدينة – أفسدوا المدن المتقدمة اجتماعياً وغيروا معالم الثقافة والسلوك في ردة عما حققته المدينة من رقي وتحضر ! ، بل ذهب بعضهم إلى تفسير انتكاسات العرب في نصف القرن الماضي وما قبله إلى هيمنة أبناء الريف على المسرح السياسي العربي فـ( غيروا ضوابط السلوك فيه وأرجعوه إلى أزمان التخلف وهيمنة العقلية الريفية فهزموا وفشلت برامجهم السياسية ) ! .

ولكي تكون الصورة واضحة فإن كاتب المقال لم يعش في الريف وتشرب بقيم بغداد العريقة التي ولد ونشأ فيها وتعمقت قيم المدينة لديه بانتماءه لحركة ثورية مدينية في خمسينيات القرن الماضي وقبل أن تبدأ الهجرة من الريف للمدينة .

بديهي وكما في أغلب النظريات المشبوهة فإن أصل هذه النظرية هو الغرب وخبراءه المجندين ليس لإظهار الحقائق التاريخية والاجتماعية وإنما إمرار ما يطلب منهم إمراره من أفكار ونظريات حتى لو كانت مجافية للمنطق وللحقائق وللتاريخ الواقعي ، ولكن الجديد في التسعينيات وما بعدها هو أن بعض المثقفين العرب تلقفوها وسخروها لتفسير ما حدث في الوطن العربي من كوارث وتراجعات وردات خصوصاً لأجل إدانة الأنظمة الوطنية والتقدمية التي حكمت العراق ومصر حيث اتُّهم قادة البعث في العراق ونظام عبد الناصر في مصر بأنهم نقلوا تأثيرات الريف إلى المدينة واضعفوا ثقافة المدينة لصالح ثقافة الريف ! ، والسؤال الذي يزيح أغطية الأكاديمية عن النظرية ويحدد دوافعها الحقيقية هذه هو : لِمَ صُدِّرت هذه النظرية إلينا ؟ .

1- هذه الأُطروحة وإن بدت تتبرقع بلباس أكاديمي إلا أنها تخفي الهدف الحقيقي لها وهو منع رؤية تأثيرات الخارج على مسار التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية واعتبار العوامل الداخلية السبب الوحيد لكل مشاكل تلك البلدان .. الخ منذ بداية القرن العشرين الذي شهد بدء تنفيذ مخطط كولونيالي – صهيوني كانت محطاته الأساسية تبني الكولونيالية الأوربية مضامين استراتيجية المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في سويسرا في عام 1897 بعد اكتشاف النفط في الوطن العربي فتقرر جعل فلسطين وطنا لليهود بعد أن كانت عدة مناطق مرشحة لذلك لكن اكتشاف النفط رجح فلسطين ، وتقرير بنرمان ووعد بلفور وسايكس بيكو .. الخ ، فهذه النظرية ليست سوى إحدى وسائل إعادة تركيب وعي الناس خصوصاً النخب المثقفة بحيث تتبنى ما يُصدر لنا من نظريات تفسر أوضاعنا رغم أنها مضللة وضالة فتفقد القوى الشعبية البوصلة في التحليل وتتبنى كل ما يسهم في زيادة التضليل وتهميش الحقائق الواقعية .

2- النظرية تقول بأن البداوة التي تسللت للمدن هي سبب مشاكل البلدان النامية خصوصاً العربية التي تعرضت لطغيان تقاليد وقيم البداوة على الكثير من الحواضر العربية وهي مراكز التمدن والحضارة الحديثة فتسببت في التخلف والأزمات الدورية واضطراب القيم والمفاهيم .

وإذا كان هذا صحيحاً ، دعونا نفسر لم تميزت سياسات أمريكا العالمية القائمة على الغزو الرسمي ، وهي من السمات التي أُلصقت بهوامش البداوة والقبلية ، رغم أن أمريكا بلد تجاوز القبيلة بل والعائلة أيضاً وانغمس في حياة ما بعد الحداثة وهي حياة مدينية متحللة من أغلب قيود المجتمعات التقليدية ؟ ، ولِمَ تبرعمت وازدهرت الجريمة المنظمة في أخطر أشكالها حول حواضر الغرب ولم تتمحور حول تقاليد البدو ؟ ، ومَن مارس إبادة الملايين ، البدوي أم المتحضر ابن مدن التقدم الحديث ؟ ، ومَن كان ومازال يرفض التقيد بأي قانون وقيم إنسانية ويفرض على العالم بالقوة والإكراه ما يريد المتحضر الغربي أم البدوي ؟ ، وماذا فعلت أوربا وأمريكا بالعالم طوال عقود من عصور الغزو الاستعماري والامبريالي ؟ ، هل كانتا تنشران رسالة أخلاقية أم تنهبان فقراء العالم وتزيدان جوعهما وتخلفهما وتنشران الأمراض النفسية والاجتماعية والفقر والعوز ؟ ، أترك الجواب لكم .

3- الحواضر الرأسمالية تسببت بحصول أبشع كوارث الجنس البشري المعروفة في التاريخ الإنساني كله وليس البدو سواء كانوا في هوامش البداوة وهم من مارس النهب ، أم في قلبها وهم أصحاب القيم الراقية ، فمنذ صعدت حواضر أوروبا ، خصوصاً بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وبلجيكا وغيرها ثم طغت أمريكا ، بدأ العالم يشهد مسلسل كوارث غير مسبوقة بعدد الضحايا ونوعية العذابات الجماعية وإبادة شعوب كامله : أباد البيض أكثر من 112 مليون من الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين ! ، مثلما أباد البيض أكثر من مائة مليون أسود غرقاً أو مرضاً أو نتيجة لإساءة معاملتهم أثناء نقلهم إلى أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية بعد اصطيادهم مثلما يصطادون الحيوانات ، وكان البيض وليس البدو من دشن عهد استخدام السلاح النووي وهو أخطر أسلحة الإبادة الشاملة ضد اليابان ، وسجلت أمريكا أنها شنت أكثر من 50 حرباً وهو أعلى رقم في تاريخ الحروب رغم أن عمرها أكثر قليلاً من مئتي عام .

4- ولم يقتصر الهدف المرسوم على ما سبق بل تعداه إلى تعمد الغرب تحطيم القيم الإنسانية التقليدية عامة ، فحيثما حل الغرب مستعمراً بلداً ما حتى يظهر الفساد والتشرذم الاجتماعي بزرع الفتن الطائفية والعنصرية والمناطقية ودعم الفاسدين أو المستعدين للإفساد ، فالبيئة التقليدية للعالم الثالث والتي كانت مستقرة ومنسجمة مع درجة تطور شعوبه ، وكانت مريحة نسبياً ، غُيرت عمداً ونسفت قواعدها التكوينية فانهارت المجتمعات وحلت الفوضى وضياع القيم والبوصلات ، وهذا المخطط شمل البدو الذين تعرضوا لأسوأ تأثيرات الغرب الرأسمالي ، والمثال هو ما حصل للكثير من بدو الخليج العربي .

حواضر أوروبا مثل لندن وباريس ومدريد وغيرها التي أنجبت أمريكا وإن كانت تبدو أقل ميلاً للجريمة المنظمة إلا أن نزعة الجريمة المنظمة كانت متجذرة في أعماقها تحت غلالة شفافة من القانون والتحضر وحقوق الإنسان مثلاً لكنك ما إن تحك هذه الغلالة حتى ترى تحتها وحشا يبتسم لك قبل أن يفترسك بلا رحمة ! .

5- ما أكدناه ليس اتهاماً أبداً ، بل هو أقل من الواقع بكثير فقط انظروا لما فعلته أمريكا وأوربا بنا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي سترون من هو الوحش الأكثر قسوة وفساداً وتخريباً في كل التاريخ الإنساني :

إنها أوربا التي دشنت بداية عصور القسوة والأنانية المفرطة وتبعتها أمريكا لأنها امتدادها الطبيعي ولكن المرضي ، الأمر الذي جعل أوربا – مع استثناءات لأسباب استراتيجية خاصة - أول من أيد أمريكا في جرائمها في فيتنام والعراق وأفغانستان ويوغسلافيا ، والآن في العراق مرة أخرى وأُضيفت سوريا واليمن وليبيا . أوروبا المتحضرة التي تحكمها قيم الحواضر الرأسمالية الغربية هي الشريك الكامل الشراكة لأمريكا في أشنع جرائم كل العصور ، ويكفي أن نشير إلى أن كارثة ليبيا مثلاً من صنع أوربي ، خصوصاً فرنسي ، نيابة عن أمريكا وبالأصالة عن نفسها ! ، ناهيك عن الدعم أو التواطؤ مع غزوات أمريكا .

فهل ما أجبر قادة الغرب هو تقاليد البداوة أم آليات الرأسمالية وثقافة ما بعد الحداثة ؟

..... يتبع .

Almukhtar44@gmail.com

6-4-2019

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page