الرفيق المجاهد صلاح المختار - نقد نظرية ترييف المدينة ، الحلقة الثانية
- مفكر قومي
- Apr 16, 2019
- 5 min read

نقد نظرية ترييف المدينة
" الحلقة الثانية "
هل كانت لهجرة البدو وأبناء الريف للمدينة تأثيرات سلبية ؟ ، نعم ، البدو عندما هاجروا للمدن بصورة جماعية وفي وقت قصير نسبياً نتيجة للاضطرار المادي وبحثاً عن العمل بعد فشل الاصلاح الزراعي وفقدان آلاف المزارعين لمصادر دخلهم اضطروا للهجرة الجماعية إلى العاصمة بغداد فمارسوا تأثيرات سلبية مثل عدم احترام الوقت والحياة العفوية التي تفتقر للتنظيم وأحياناً الكسل والانجاز بقدر حاجة يوم ، وفي السياسة تقدير الموقف لفترة قصيرة وصعوبة التفكير بنتائج بعيدة غير منظورة ، والاعتماد على القريب وابن العشيرة وليس على الأكثر كفاءة ، والتفكير الاسطوري البعيد عن العلم ، وازدواجية المؤثرات على الفرد فبدلاً من قيم منسجمة واحدة أو مشتركة فإن وجود قيم الريف والبداوة مع قيم المدنية والمدينة في آن واحد يخلق ازدواجية التفكير وتناقضات الاختيارات والتقلبات غير المتوقعة من الفرد المتقلب ذاته ... الخ .
البدو وأهل الريف يتميزون بتقاليد إيجابية وبعضها رائعة منها النزعة الأبوية وقوة القيم العليا ومتانة العائلة وترابط العشيرة والنخوة والفروسية والاحساس العميق بالكرامة ، وهو ما سنشرحه لاحقاً ، وهي تقاليد وتربية فقدها عموماً من سكن هوامش الريف والبداوة وعاش بطريقة خاصة غير مقبولة من العشيرة ، وتميزت هذه الشريحة بقدرتها على النهب عندما تسنح الفرصة وممارسة أنانية وقسوة مفرطة من أجل المال أو التسلط حتى بين الأخوة .
دعونا أولاً نسلط الأضواء ومن زوايا متعددة لكيفية تحول بعض البدو والريفيين عن قيم العشيرة والبداوة ولم يكتسبوا إلا قشور وشكليات تقاليد المدينة ، وكيف أن ابن المدينة تعرض لاهتزاز قيمه وتقاليده نتيجة لتدفق تقاليد بدوية وريفية بكثافة للمدينة ، ثم نقيم الطرفين البدوي وابن الريف وابن الحضارة والمدنية الراقية ونبحث في الأسباب التي حولت البدوي وابن الريف إلى حامل للسلبيات المضرة .
1- السلبية الأكبر في ممارسات البدو وأبناء الريف الذين هاجروا للمدن نتجت عن تدخل الغرب الاستعماري بعد غزو اقطارنا او التغلغل فيها سياسيا او مخابراتيا وممارسته لتأثيرات خطيرة من خلال تنميته للبذور والاجنة السلبية التي تعايشنا معها طوال قرون وبلا آثار تدميرية وكانت محدودة وكان ضررها محدوداً حتى جاء الاستعمار الغربي فصارت مشكلة معقدة ، عندما سخر طاقاته المخابراتية والعلمية والمالية والاعلامية لإفشال خطط الاصلاح الزراعي التي وضعهتا أنظمة وطنية تقدمية أسقطت النظم الفاسدة والتابعة للغرب ، كما حصل في مصر في زمن عبد الناصر وفي العراق في عهدي قاسم والبعث وهي أمثلة أُنموذجية للهجرة الكثيفة من الريف أو البادية للمدينة .
فقد وضعت الدولة اليد على الأراضي الزراعية التي كانت ملكية للاقطاعيين ووزعت الأراضي الزراعية على الفلاحين في مصر بعد ثورة 23 تموز – يوليو عام 1952 وزودته بما يحتاج إليه لأجل رفع الانتاج الزراعي ولكن التدخل الخارجي بصورة ضغوط هائلة إعلامية واقتصادية وحروب أدت لإفشال عملية تثوير الريف وتمدينه وظهر ذلك جلياً حينما هدم السادات الاصلاحات وفسدت أجهزة الدولة فجاع الفلاح ولم يجد غير الهجرة الجماعية للمدينة وهو محمل بكامل تقاليده وتربيته وأفكاره ، وهكذا رأينا القاهرة مثلاً تحتوي على أرقي شرائح المجتمع ثقافياً واجتماعياً تتساكن مع فلاحين وبدو نزحوا للمدينة هرباً من البطالة والجوع ! .
وهنا لابد من الإشارة لأهميتها البالغة وهي أن السادات رضخ لشروط المؤسسات المالية الدولية وهي أداة الغرب الاستعماري ضد الشعوب وهي شروط تفرض الخصخصة على الشركات الحكومية والمؤممة إضافة للتدخل في عمل قواعد الاقتصاد كله فصارت مصر أسيرة لإجراءات نظام وطني لم يكمل برامجه وهو نظام عبد الناصر وخطوات الردة عنها ، وهنا فقدت الملايين مصدر رزقها ، فالفلاح فقد أرضه لعجزه عن استثمارها والعامل فقد وظيفته أو تراجع دخله نتيجة الشروط الخارجية ، فحل الفقر وزات الأمية وارتفعت نسبة الجريمة والتدهور الاجتماعي ونشأت أحياء المقابر وهي دور بدائية أُنشأت في المقابر من قبل العاطلين عن العمل من أبناء الريف وأبناء المدن أيضاً الذين سحقتهم سياسات السادات ومبارك ، فماذا نتوقع من اضطراب اجتماعي هائل مثل هذا غير تصادم القيم والتقاليد وتناقضات طرق التفكير والممارسات ؟ .
وفي العراق أقدم عبد الكريم قاسم على مصادرة أراضي الاقطاعيين ووزعها على الفلاحين لكنه لم يوفر لهم متطلبات الزراعة الأخرى ولا كانت للنظام استراتيجية واضحة فعجز الفلاح عن استثمار الأرض ولم تعد توفر له دخلاً يكفيه هو وعائلته فاضطر للهجرة إلى بغداد بحثاً عن عمل فيها فتحولت حي كان محدوداً في الزمن الملكي إلى أحياء الصفيح في الزمن الجمهوري والتي ضمت من هاجر من الريف وهي أحياء بالغة الفقر سادتها الأمية والتخلف في مدينة حضرية متقدمة هي بغداد ، وكلما تكائر عدد المهاجرين إلى بغداد زادت حدة تناقضاتها الاجتماعية والفكرية الأخلاقية ، وهذه الأزمة نشأت لسببين ، السبب الأول .. ارتجالية قرارات تأميم الأراضي وعدم دراسة ما يجب أن يرافقها من خطوات مكملة ، والسبب الثاني .. البيئة العراقية والخارجية المحيطة بالعراق وهي بيئة صراعات ساخنة جرت العراق إلى حالة عجز عملي عن تحقيق تقدم وحل المشاكل المعقدة خصوصاً الفقر والأمية وتناقص القيم المدينية والقيم الريفية .
وبقيت بغداد على هذا الحال حتى جاء البعث للحكم في عام 1968 ولعل أخطر ما واجهه نظام البعث هو أن تناقض تقاليد السكان نتيجة وقوعهم بين ضغوط تقاليد الريف والبداوة كان مصدراً لعدم الاستقرار الأمني والسياسي والنفسي ، فأقدم نظام البعث على خطوة مدروسة بدقة وهي إعادة الرغبة في العيش في الريف وتشجيع أهل المدن على الانتقال للريف والعمل والعيش هناك وكان ذلك في إطار خطة تمدين الريف ، وتطلب ذلك خطة متكاملة شملت كهربة الريف وفتح آلاف المدارس والمستشفيات والمصانع فيه وتوزيع الأجهزة الحديثة على الناس مثل التراكتورات والتلفزيونات لمواكبة ما يجري في العالم ، وشق طرق استراتيجية تربط الريف بكافة أنحاء العراق وتسهل التفاعل بين أبناء الريف وبقية العراق .
منح حملة شهادات دكتوراه أراض زراعية مع مستلزماتها الضرورية وتدفق آلاف الحضريين للريف وبسرعة اغتنى الريف وتطور فانقلب اتجاه الهجرة بصورة ملموسة ، أما أحياء الصفيح التي تحولت إلى مدينة ضخمة داخل بغداد اسمها مدينة " الثورة " ، وفيما بعد مدينة " صدام " ، فقد شهدت تقدماً ملحوظاً عندما زودت بكافة الخدمات المطلوبة للعيش في المدينة مثل المدارس والمستشفيات ومراكز الشرطة وكل ما يحتاج إليه سكانها ، ووضعت خطط لأجل بناء أحياء ومدن أخرى تستوعب هؤلاء لأن مدينة الثورة بالأصل بنيت بصورة عشوائية وعاجلة فأصبحت عاجزة عن التكيف مع متطلبات التوسع العمراني أو غيره .
وهكذا ، وضعت المشكلة الاجتماعية التي تكونت في عهد قاسم على طريق الحل التدريجي وبلا هزات أو إجراءات متسرعة فزادت مداخيل سكان مدينة الثورة التي نال الكثير من أبناءها شهادات عليا وتخصصات ممتازة فصار منهم أطباء ومهندسون وضباط .. الخ .
لكن وكما في عهد عبد الناصر في مصر فإن التدخل الخارجي أعاد مشكلة تداخل القيم وتناقضها إلى الحياة بعد أن كادت تزول فلقد تعرض العراق إلى حرب شنها عليه نظام خميني واستمرت ثمانية أعوام استنزفنت موارد الدولة وأجبرتها عل اتباع سياسة تقشف قاسية وبعدها فرضت أزمة الكويت وجرت العراق إلى بداية أكبر كوارثه فانهار التعليم الذي كان يتمتع بمستوى رفيق باعتراف عالمي ، وتدهور مستوى المعيشة وعاد الفقر ومعه عادت أنواع مدانة من السلوك الاجتماعي رغم أن النظام الوطني قاتل من أجل المحافظة على مستوى مقبول من الحياة لكل العراقيين بواسطة البطاقة التموينية التي وفرت الغذاء والدواء لكل أسرة عراقية بثمن رمزي .
ولكن المشكلة المعقدة هي أن تغيير تربية أجيال تربت في بيئة محددة لآلاف السنين – وهذا يشمل أبناء الريف والمدينة - ثم فرضت الدولة عليها تغييرات تدريجية للانتقال بها إلى العصر الحديث وتقاليده وقيمه لم يكن ممكناً بعد الحصار وتصاعد الضغوط في محاولة منظمة لخنق العراق واحتلاله ، فالحصار وعودة الفقر وتراجع الأخلاق وتنفيذ عمليات عسكرية من قبل أمريكا ومن معها بين فترة وأُخرى لحرق المزارع والمصانع وتدمير منشأت عسكرية أعاد العراق إلى حالة الطوارئ وهي حالة تتدهور فيها مستويات الحياة والأمن .
التدخل الخارجي بتفاعله مع تراكمات تقاليد متناقضة واستغلاله البشع لها أدت إلى ولادة وحش غريب شديد الشراسة اسمه تناقض القيم وتصادم طرق التفكير بعد أن رفع غطاء الدولة وقيودها عن الذين علمتهم الدولة وثقفتهم .
وتظهر ملامح الوحش في ابن الريف الذي فقد قيم الريف وهو في المدينة ولم يكتسب قيم المدينة ! ، وكذلك ابن المدينة الأصلي لم يحافظ على قيم المدينة كما كانت ولم يكتسب قيم الريف ! ، وفي الحالتين سادت التأثيرات السلبية للقيم المتناقضة ، فأبناء الريف لم يتمدنوا حقاً ولا تريّف أبناء المدينة ، وكلاهما اكتسب أو نمّا الجوانب السلبية في كل من المدينة والريف وترك الجوانب الايجابية فـ( فقدا الخيط والعصفور ) كم يقول المثل العراقي .
والأخطر من كل ذلك هو أن العراقي اكتسب قيماً وتقاليد لم تكن موجودة لا في المدينة ولا في الريف وإنما كانت إما ثمرة تفاعل كيمياوي بين قيم الريف وقيم المدينة أنتح سلوكاً هجيناً ، أو صُدّرت إلينا عبر الاعلام والأكاديمية وغيرها وقُبِلت بلا تمحيص نتيجة الضغوطات النفسية ! .
إنه الأثر الكاسح لتأثيرات الخارج المتقدم جداً والمعتمد على أحدث العلوم والتكنولوجيا ، والمبرمج استراتيجياً لتغيير قواعد تفكيرنا تمهيداً لنقلنا من هوية وطنية واحدة إلى هويات متناقضة ، وهنا رأينا مكمن الخطر الأكبر الذي هدد العراق وفتح الأبواب أمام غزوه.
... يتبع .
Almukhtar44@gmail.com
13-4-2019
Comments