الرفيق المجاهد صلاح المختار - نقد نظرية ترييف المدينة ، الحلقة الثالثة
- مفكر قومي
- Apr 25, 2019
- 6 min read

نقد نظرية ترييف المدينة
( الحلقة الثالثة )
2- كيف ولماذا غلب الغرب المتحضر الجوانب السلبية في قيم البداوة وتقاليدها ؟ ، الأسلوب الأول الذي اتبعه الغرب لتحقيق ذلك كان اعتماده على سياسة ( فرق تسد ) التي أبدعت في تطبيقها بريطانيا حينما كانت امبراطورية لا تغرب عنها الشمس وشاركتها في ذلك فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وغيرها ، ثم تبعتهم أمريكا بعد تراجع الدور الأوربي ، وظهر ذلك في فتوحاتها العسكرية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وكان الأسلوب الرئيس للاستعمار الأوربي هو إثارة النعرات القبلية والعرقية والجهوية والطائفية وغيرها ، وأعدوا لهذه المهمة جواسيس دربوا لسنوات وبعثتهم بريطانيا وغيرها للاختلاط بالعرب بدو وريفيين وحضر ونشر أفكار وممارسات ورزع بذور نبتات الفتن والتناقض .
في الهند اشتهرت مقولة غاندي ( إذا تقاتلت سمكتان في البحر فتأكد أن بريطانيا خلف عراكهما ) ، فقد كان رجال بريطانيا بمختلف مستوياتهم يحولون الخلافات الدينية والطائفية والعرقية والطبقية إلى عوامل صدامات دموية بين الهنود ووصلت لدرجة أن القادة البريطانيين في الهند كانوا يمارسون الطقوس الدينية تارة مع الهندوس وتارة أخرى مع المسلمين وفي الحالتين كان هدفهم إشعار كل طرف بأن بريطانيا قريبة منه وأنها تدعمه ضد الآخر ، وهذا الأسلوب لم يتغير في القرن الحادي والعشرين بل مارسه بعض مبعوثي الأمم المتحدة في العراق بعد غزوه فرأيناهم يقومون بزيارة المراقد الدينية في النجف وكربلاء ويتضرعون أمام القبور كأنهم من أهل النجف ! ، وذلك ليس دافعه الإيمان بدين أو طائفة بل تشجيع السذج على تعميق طائفيتهم وتمسكهم بكافة الأساليب التي تعمق الصراعات الطائفية ، رغم أن بعض هؤلاء الأوربيين يمارس ذلك مقابل رشا مالية .
وفي بلاد فارس _ وسميت إيران لاحقاً - كانت بريطانيا هي الحاضنة للمرجعيات الشيعية وغذتها طوال عقود كي تتعمق الفتن بين الفرس والعرب ولكن تحت غطاء طائفي ، ويلاحظ أن أغلب رجال الدين في إسرائيل الشرقية والعراق أصولهم ريفية محافظة ، وعندما دخل الاستعمار البريطاني العراق أخذ يتقرب لشيوخ العشائر ورجال الدين ويتظاهر رجالاته بأنهم أكثر من المسلمين سنة وشيعة حرصاً على الإسلام وطقوسه ! ، ونصبوا الشيوخ الزائفين حينما رفض الشيوخ الحقيقيين الرضوخ لطلبات بريطانيا وفرضوا من هم أقل شأناً من الشيوخ الأصليين أو من هوامش العشيرة فنتج عن ذلك صراع داخل العشيرة وانقسمت بين تابع للشيخ الأصلي وبين الشيخ المدعوم من بريطانيا ، وكانت تلك بذرة انتهازية كثير من الشيوخ .
وقوت جهدها التقسيمي للمجتمع هذه المرة طبقياً فقدمت بريطانيا رشاً كبيرة لشخصيات عراقية مثل قطع الأراضي الزراعية والعقود والوكالات التجارية أو المناصب العليا لأجل خلق طبقة أو شرائح مرتبطة مصلحياً ببريطانيا ، فتغيرت طرق تفكير من حصل على تلك المكاسب بينما بقي الآخرون على طريقتهم التقليدية وكان ذلك سبباً آخراً من أسباب التشرذم والتناحر .
وأعادت بريطانيا رسم الخارطة السكانية بطريقة خبيثة حيث شجعت شيوخ العشائر أو أبناءهم على الانخراط في العمل السياسي وفي البرلمان والحكومة والجيش وأعطت منحاً دراسية في بريطانيا للأبناء فظهرت فئات متغربة مع أنها مازالت تحت تأثير قوي لتربيتها الأصلية الريفية والبدوية ، وهذا أحد أهم أسباب ازدواجية الشخصية .
وما فعلته بريطانيا فعلته فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وغيرها من الدول الاستعمارية الأوربية وأمريكا لأن فرق تسد هي القاعدة الذهبية للسيطرة وتفتيت قوة الشعوب وقاعدة هذه القاعدة هي البحث في تقاليد البلد للعثور على عوامل التشرذم الكامنة وأحياءها وصب الزيت عليها .
وفي اليمن وبعد إسقاط النظام القرون أوسطي الإمامي تدخل الغرب بقوة وبكافة أطرافه الفاعلة لأجل منع قيام دولة وطنية في اليمن تسمو فوق القبلية والمناطقية وتحل محل سلطة القبيلة ، مستخدما طريقته الجهنمية التي تدغدغ الأنا الفردية وهي منح العقود والوكلات التجارية لأبناء شيوخ القبائل فعززت قوتهم وسلطتهم على القبيلة والأخطر أنهم نجحوا في نقل تقاليد القبيلة إلى الدولة والتنافس معها في ممارسة السلطة ! ، وربما الأخطر هو فقدان أبناء الريف والبدو للكثير من تقاليدهم الأصلية واكتسابهم بعض مظاهر العصر الحديث لهذا كانت خياراتهم وأنماط تفكيرهم تتسم بالازداوجية والتناقض والتقلب غير المفهوم ! .
فماذا كانت النتيجة ؟ ، من النتائج الكارثية لهذا الإفساد المنظم لأبناء الكثير من شيوخ القبائل بالعقود والامتيارات التجارية أن كثيرين منهم فقدوا قيم الشجاعة والفروسية والصدق والأمانة والنخوة وتحولوا إلى باحثين عن المال حتى لو كان ثمنه سحق أقرب الناس إليهم والتنازل عن القيم القبلية ! .
إن عبد الملك الحوثي وجماعته مثلاً وهم نفر قليل هزم أولاد شيوخ كانوا يبدون ظاهرياً كأبائهم الشجعان لكنهم هزموا بسهولة أمام الحوثي ! ، لأن الأولاد انشغلوا بالتجارة وجمع المال فصارت لهم شركات وحسابات مصرفية ضخمة وأملاك ، وهذه الاهتمامات البراغماتية هي التي أدت إلى إذلالهم من قبل الحوثي ! .
والغرب كان يمنح فرص الإثراء لأبناء زعماء القبائل وفقاً لخطة مدروسة تقوم على إفساد قيمهم الأصلية دون اكتسابهم جوهر قيم الحضارة الغربية وهو العمل الجاد والتخطيط والانضباط ، ومن ثم إضعاف أبرز القيم القبلية الإيجابية ومنها الشجاعة في المواجهة .
لقد درس الغرب سايكولوجياً الإنسان وتصرف وفقاً لنتائج تلك الدراسات وطبقها في العالم الثالث لأنه كان يعلم مسبقاً أن ازدواجية القيم في المدينة سوف يؤدي إلى اضطرابات مهمة وتتحول إلى عوامل خطيرة تهدد كيان الدولة والمجتمع فيما لو غابت السلطة القوية ، وعندما يحصل ذلك سيؤدي على إضعاف سلطة الدولة وهو ما سيمنع انتقال اليمن من دولة قرون أوسطية إلى دولة حديثة ، وكان من مظاهر ذلك هو أن جندياً في الجيش اليمني يستطيع التجاوز على ضابط أعلى رتبة منه لأنه ابن شيخ بينما الضابط ابن شخص أدنى مرتبة من الشيخ في القبيلة ! ، وكان ذلك أحد أهم أسباب دخول اليمن نفق الحرب الحالية ! .
وفي سوريا أحد أسباب دعم الغرب والصهيونية لحافظ أسد ، وتمثل ذلك عملياً في حماية نظامه لعدة عقود ، هو اعتماده على أبناء الريف من الطائفة العلوية والنصيريين والذين كانوا فلاحين فقراء فأدخل مئات الشباب في الجيش والأجهزة الأمنية والتنظيم السياسي الذي أنشأه ، فشجعت مخابرات الغرب والموساد توجهات حافظ أسد ومكنته من الانفراد بالحكم اعتماداً على الطائفية وأبناء الريف لأنهما كانا خير وسيلة ليس فقط لتفتيت حزب البعث العربي الاشتراكي وتحويله إلى مجرد اسم لا ينطبق على المسمى بل ولشيطنته بممارسات تنتناقض مع هويته الاشتراكية والتقدمية ، وتشويه صورة سوريا المتقدمة والحضرية التقاليد ، فهل تجد المخابرات الغربية والصهيونية لتفكيك لحمة المجتمع والدولة أفضل من شخص يعتمد على الطائفة وأبناء الريف في مجتمع تجاوز الطائفية منذ قرون وصار حضرياً ؟ .
كان طموح حافظ أسد السلطوي أقوى من أي دافع أخلاقي ووطني وإنساني ، فعمل على كسب دعم الغرب والصهيونية بضرب حزب تقدمي من داخله وهي أفضل وسيلة لتحييد القوى التقدمية ثم بنشره للطائفية وهو غير المتدين لأنها وسيلة ضمان ولاء ضباط من طائفته كانوا فقراء فوجدوا أنفسهم يحكمون ويتحكمون وأثرياء نتيجة ممارسة كافة أنواع الفساد والابتزاز والنهب والاضطهاد ، ثم وسع نطاق كسب داعمين له فتخلى عن القضية الفلسطينية بقبول ما سمي بـ( الحل السلمي ) للصراع العربي الصهيوني وأكد حسن نواياه بتسليم الجولان لإسرائيل الغربية دون قتال والتحول إلى أعتى عدو لحزب البعث بعد تسلمه السلطة في العراق في عام 1968 .
الحقيقة التاريخة البارزة والخطيرة تؤكد أن الدعم الغربي والصهيوني لحافظ أسد كان بسبب اعتماده على الطائفية والفساد داخل سوريا وعلى التخلي عن أهم ثوابت العرب وهو رفض الاعتراف بإسرائيل الغربية ومقاومتها بكافة الوسائل بصفتها دولة احتلال ومنع أي وحدة عربية أو تضامن عربي فعال ، وإذا خذنا بنظر الاعتبار أن حافظ أسد استمد قوته داخلياً من اعتماده على الطائفية وأبناء الريف فإن دعم الغرب له كان دعماً للطائفية ولثقافة البدوي وابن الريف ضد ثقافة وتقاليد المدينة والحضر .
ولعل أبرز الأدلة على استخدام الغرب والصهيونية لنظرية ترييف المدينة لخلق الأزمات المعقدة والدورية هو أنهما في الوقت الذي يتجاهلان هذه الظاهرة تقريباً في سوريا الأسد يركزان عليها في العراق في ظل النظام الوطني رغم أن أبرز الحقائق الميدانية تؤكد بأن الترييف في سوريا كان ظاهرة رئيسة وطاغية كانت وراء التحولات الكارثية الكبرى في سوريا ، بينما في العراق كانت ظاهرة هامشية ، ففي سوريا نجحت خطة الغرب والصهيونية في ترييف المدينة بسيطرة أبناء الريف على الدولة خصوصاً على أجهزتها الأمنية بينما بقي العراق بعيداً عنها لوجود حزب حقيقي متعال على الطائفية والمناطقية حتى وإن وجدت بعض الحالات الهامشية والتي يعود وجودها ليس لممارسات قيادة الحزب بل لقوة وجودها في المجتمع .
في العراق كان المتحكم بالعملية السياسية والتغييرات الاجتماعية هو الحزب وبالذات الشهيد القائد صدام حسين ، وهو ، وباعتراف الجميع ، وإن كان ابن ريف إلا أنه تمدن بسرعة وقبل الوصول للحكم وأخذت تتحكم به تقاليد المدينة وثقافة حزب البعث التقدمية والاشتراكية ، ومن كان معه كانوا جميعاً متمدنون بما في ذلك من كانت أصولهم ريفية ، ويكفي أن نقرأ أسماء بعض قادة النظام الوطني وقادة آخرين كانوا الرعيل الأول في تأسيس البعث في العراق للتأكد من ذلك وفي مقدمتهم الرفاق عزة إبراهيم وطارق عزيز وطه ياسين رمضان وسعدون حمادي وعلي صالح السعدي وفؤاد الركابي وحازم جواد وفيصل حبيب الخيزران وغيرهم ، وكل هؤلاء أبناء ريف لكنهم تميزوا بأنهم تحولوا بصورة طبيعية واكتسبوا تقاليد المدينة مع احتفاظهم بالإيجابي من تقاليد الريف والبدو مثل الفروسية والصدق والإخلاص والوفاء ... الخ ، فازدهرت الثقافة والفنون والتنوع في زمن البعث وكان العراق أكبر قارئ مستهلك للكتب التي تطبع في الأقطار العربية إضافة لتحوله إلى أكبر ناشر للكتب بكافة أنواعها .
وأعضاء القيادة لم يكن بينهم من يستطيع حتى لو كانت له جذور ريفية أو بدوية أن يتجاوز على تقاليد الحزب بينما حافظ أسد احتضن كل انتهازي وهزيل وجعله في قيادة سوريا ونضرب مثلاً واحداً يوضح إشكالية الانتهازية عندما تصبح قيادة : فعبد الله الأحمر ، الأمين العام المساعد في تنظيم حافظ أسد وابنه بشار خرج متظاهراً ضد انقلاب حافظ أسد واعتقل وخير بين أن يكون أميناً عاماً مساعداً في حزب حافظ أو يرمى في السجن فقبل أن يكون نائباً لحافظ وترك رفاقه يموتون في سجون حافظ تعفناً ! ، ومن صار نائباً لأسد تتحكم فيه نوازع الأنانية والتمحور حول الذات وهي من سمات هوامش البدو والريف الذين فقدوا الخيط والعصفور ، وهكذا فمن انخرط في تنظيم حافظ أسد يتميز بالانتهازية وهزال الجذور ، مقابل قادة البعث في العراق الذين استشهدوا بعد الغزو رافضين التنازل عن عقيدتهم .
فهل تنطبق على العراق نظرية ترييف المدينة التي روجها كثيرون عن جهل أو نتيجة الموضة السائدة أو بسوء نية أم أن العكس هو الذي فرض نفسه فنجح مناضلوا البعث بالدمج بين أفضل ما في تقاليد الريف والبدو وهي الشجاعة والوفاء وبين أفضل تقاليد المدينة ومنها التنظيم الصارم والعقلانية والتفكير الاستراتيجي ؟ ... يتبع .
Almukhtar44@gmail.com
24-4-2019
Comments