top of page

الرفيق صلاح المختار - نقد نظرية ترييف المدينة ، الحلقة الخامسة


نقد نظرية ترييف المدينة

الحلقة الخامسة




6- هل كان وضعنا الاجتماعي قبل غزوات الغرب لنا أفضل بقيمه وروادعه ؟ ، هل البداوة وتقاليد الريف هي اللغم الذي فجر أوضاعنا الجيدة اجتماعياً وأخلاقياً التي سادت قبل الاستعمار ؟ أم أن الاستعمار والصهيونية اللذان أرادا السيطرة على أراضينا ومياهنا ونفطنا وبقية ثرواتنا اقتنعا بأن غزونا ونهب ثرواتنا مرهون بتفكيك قيمنا ومجتمعاتنا وتقسيم أقطارنا ؟ ، هل الغرب والصهيونية وهجرات الفرس لأًقطارنا ، خصوصاً للعراق ، كانت عاملاً رئيساً في تعاظم القيم المنحطة أو زراعتها وتنمية ما كان محدوداً ؟ .

قبل الاستعمار كان الفرد بسيطاً لدرجة السذاجة والسذاجة في المجتمعات النامية تعبير عن الطيبة وعن الفهم البسيط للآخر ومحدودية الأنانية ، وكانت تتميز بالتفكير البسيط غير المعقد وعيش اللحظة ... الخ ، فتحول في ظل السيطرة الغربية الاستعمارية إلى أمراض فتاكة لأن المخططات المخابراتية وضعت لتغيير طرق تفكير الإنسان وكيفية اختيارمواقفه تجاه كافة الأشياء .

كانت العائلة مترابطة الصلات وكان الصغير يحترم الكبير وكانت رعاية الكبير للصغير تكمل احترام الصغير للكبير ، وكان التعاون والنخوة من سمات مجتمعنا رغم الفقر ونسبة الأمية العالية فيه ، وكانت الدسائس ضعيفة ومحدودة في مجالات معينة وكانت الأمانة سائدة بينما اللصوصية عار مدان ، لهذا فإن المجتمع التقليدي قبل عصر الاستعمار كان هادئاً وفيه نوع من السعادة رغم كل مشاكله ، وأحد أسباب ذلك أن صلاته كانت فطرية في تطورها ولم تكن هناك هزات كبيرة وعوامل خارجية طارئة كثيرة تخلخل التوازن الفكر والنفسي ومن ثم تضعف التماسك القيمي والأخلاقي ، وكانت الهزات تحصل بين فترات متباعدة جداً ولهذا فإنها كانت تزيد تحصين فطرة الناس وليس العكس .

البركان الذي نسف الفطرة وزج الاصطناع والتزييف في مجتماعتنا كان عندما قامت خطط الغرب الأوروبي ، وكما نرى الآن ذلك أكثر وضوحاً بعد غزو العراق ، على تفكيك بنية مجتمعاتنا التقليدية وإضعاف قيمنا وتنمية كل ما هو سلبي ومنعزل وتحويله إلى غول مفترس ، ويشمل ذلك تفكيك العائلة وصولاً لتفكيك الفرد وهو تفكيك قيمي في المقام الأول ، وهو الهدف الأخطر ، وليس تفكيك المجتمع فقط ، وعملية التفكيك المتعددة والشاملة للتكوين الإنساني برمته تضع الفرد أمام تناقضات تربك منظومته الفكرية وتعرضه لفقدان التوازن نفسياً وفكرياً والتلاعب بمحركات الشخصية والاجتماعية .

ولهذا ، فإن أسوأ ما ظهر على تلك الشريحة من البدو والريفيين هو الاضطراب النفسي والفكري ولم يكن موجوداً لأنها كانت تتميز في حالتها الأصلية بصفاء الذهن وحدة المبادرة في بيئة معادية بطبيعتها فما أن يغفل البدوي وابن الريف حتى يجد نفسه ضحية لحيوان مفترس أو لعدو يتربص به أو لضياع في الصحراء يقتله ، فتضخيم الظواهر السلبية كان عملاً خارجياً غربياً - صهيونياً ، وكان للفرس دور أساس فيه نتج عن هجرة آلاف العوائل الفارسية إلى العراق تحت غطاء البحث عن لقمة العيش فكان اختلاطهم بالعراقيين سبباً في تحولات قيمية كثيرة سلبية وأكمل الغرب المهمة بتفجير براكين التناقض وطغيان ما كان متنحياً .

7- ولعل من بين أسباب تعمق وانتشار السمات السلبية لهوامش الريف والبدو هو التفاعل بين الأصول التكوينية للقيم التقليدية لهم وما طرأ عليها من تأثيرات خارجية مفروضة ، التفاعل أنتج ظواهر جديدة إضافة لما زرعه الغرب والصهيونية والفرس وهي ثمرة تلقائية لتفاعلات اجتماعية طبيعية حصلت بوصول عوامل خارجية جديدة حركت الحاجة الطبيعية لمواجهتها بالتفاعل معها وهو نوع من أنواع الصراع بين الأضداد والذي يولد من بين ما يولده نتاجاً مختلفاً عن كل أصوله ، من هنا كان تغيير القيم بعد دخول الأجانب هو في آن واحد نتاج التخطيط المتعمد الغربي وثمرة تفاعلات طبيعية بين تأثيرات خارجية وأُخرى داخلية قاومتها فظهرت حالات نوعية مختلفة من السلوك .

نعم للبداوة دور في تراجعتنا وتخلفنا ومن أهم عناصر البداوة الذي تسبب في ذلك وهو اختلال توازن من رحل للمدينة من الريف أو البادية هو عقدة الخواجة وهي عقدة دونية لأنه كان ينبهر بأضواء مدينة صاخبة كنيويورك وباريس ولندن يدخلها لأول مرة ، أو عندما دخلت نتاجات الغرب الحديثة إلى مدننا وبعض قرانا وبما أنه تعرض للتأثير المفاجئ لطريقة تفكيره المحصورة في مجتمع متخلف وبدائي أو شبه بدائي فإنه اعتبر كل ما يصدر عن الغرب صحيحاً ويجب تبنيه بما في ذلك التدهور الأخلاقي الغربي الناتج عن سلوك براغماتي يبرر كل شيء إرضاء للذات الأمارة بالسوء فوجدت هوامش البدو والريفيين في قيم الغرب سلاحاً فعالاً لتنمية ما كان لديها من نوازع نهب محدودة ، وركز الانكليز بقوة على إفساد هوامش البدو والريفيين .

وعندما طغت البراغماتية في التفكير على التلقائية والفطرة تضخم التحلل الأخلاقي مما جعل تلك الهوامش أشد نزوعا للنهب وإن كان بطرق مختلفة ، ولدينا الآن بعد احتلال العراق وتنفيذ خطط تدمير قيمنا تحول ظاهرة النهب إلى ممارسة غير مسبوقة لأنها صارت عمليات سرقة منظمة لثروات الشعب ، ولكن أهم ما فيها هو أن النهّابة ليسوا من هوامش البدو ولا من حثالات الريف فقط بل أن أبناء المدن انخرطوا في عمليات النهب والإفساد والفساد فزالت الفوارق بين أبناء الريف والبدو وأبناء المدينة عندما تعلق الأمر بالنهب والتجاوز على حقوق الآخرين .

8- يكثرون من وصف البدو بالغزاة الذين يشنون الهجمات من أجل السرقة والنهب دون النظر إلى تراكم التقاليد والحاجات الإنسانية في أزمان سابقة لمعايير زمننا الحالي كانت تتسم بالتخلف العام في الكرة الأرضية بحواضرها ومناطق البدو فيها في آن واحد ، لذلك فإن هذه الشريحة من البدو تمارس تقليداً قديماً جداً أصله ، وسببه الحاجة وليس البطر والرغبة في مراكمة الثروات كما تفعل الرأسمالية في حواضرها ، فهذه السلبية في البدو ليست سوى تعبيرعن معاناة الإنسانية الإجباري وليس اختياري كما في حالة الرأسمالي الغربي الذي يمتلك ثروات هائلة لكنه وبدافع جشع لا حدود له يبدأ بشن الحروب لاحتكار الثروة في وطنه أولاً ثم عندما يتمكن ينتقل لجيرانه ثم العالم كله مندفعاً بحثٍّ أناني مَرضي لنزع كل الثروة من أصحابها واحتكارها رغم أنه لا يحتاج لها ولديه ما يكفيه وأكثر .

ومن الظواهر المهمة ، ظاهرة أن النهب والغزو في أزمان قديمة كان تعبير عن حالة تخلف حضاري وحاجة اقتصادية ونقص ثقافي وعلمي وتكنولوجي ، فهي ظاهرة طبيعية وفقاً لتلك البيئة ولكن ما يلفت النظر ظاهرة خطيرة وهي أن النهّابة والغزاة الآن متحضرون ومثقفون وأثرياء لا يقتلهم الجوع ولا يهددهم أحد خصوصاً ضحاياهم ومع ذلك نراهم يغزون وينهبون ويقتلون بلا رحمة وبتلذذ مَرضي ، وفي مقدمتهم الأوربي الذي استعمر أمريكا والأوربي الذي بقي في أوربا ! .

نتساءل : أيهما أسوأ ، نهب وغزوات البدو الذين تتسم قيمهم بالانتماء إلى عصور ما قبل الحضارة الحديثة واعتبرت الغزو جزء من تقاليد الحياة الصحراوية القاسية كضرورة للبقاء ؟ ، أم غزوات المتحضرين في عصر رقي الحضارة والتقدم العلمي التكنولوجي في مجتمعات غربية لم تعد العشيرة موجودة فيها وتفككت قيم القبيلة وحلت محلها قيم المعمل والمدينة ؟ ، وهل يمكن لأي باحث موضوعي أن يتجاهل ما فرضه القسر الاستعماري الأوروبي والأمريكي من قيم طارئة على البدوي وابن الريف وابن المدينة فجردته الحضارة الحديثة من أصوله القبلية والمناطقية والدينية والطائفة وأغرقته في بيئة غريبـة عليه فأصبح متوقعـاً أن يفقد توازنه جزئيـاً أو كليـاً ؟ .

أبرز ما لا يمكن تجاهله هو أن الخلل الجوهري يكمن في السلوك الغربي المشوه التربية وليس في مكامن البدوي والريفي الفطريين اللذان لم يتعرضا لتأثيرات الغرب الاستعماري .

ما نراه الآن ومنذ صعود أوربا ، خصوصاً عندما تقدمت عليها أمريكا المولودة من رحم بيئتها الإجرامية ، وتفوقت عليها في كل شيء حتى في القدرة الخارقة على ارتكاب جرائم غير مسبوقة في تاريخ البشر وليس فقط السبق التكنولوجي : فأمريكا تميزت بأنها فاقت أوربا وكل غزاة التاريخ في القسوة وممارسة اكثر أساليب الإبادة واحتقار الآخر على الاطلاق وهي محكومة بعقلية من يريد أن يمتلك كل شيء في العالم بالقوة المجردة وبتأثير مَرضي لأنانية مطلقة من أي قيد أخلاقي وقانوني .

ولدينا الآن مثال واضح لهذه العقلية وهذه القيم ممثلة بسلوك " ترامب " الرئيس الأمريكي الذي لا يتردد في المطالبة بنهب ثروات الآخرين لمجرد أنه يمتلك قوة طاغية وهو ما قاله وكرره حول نهب ثروات العراق ودول الخليج العربي ! ، بل أن السلوك الأمريكي الرسمي هو سلوك نهّابة بالتربية المتوارثة فقبل انهيار الاتحاد السوفيتي كانت أمريكا هي أقوى داعية لحرية التجارة ومنع تدخل الدول فيها ، والسبب هو أن الغرب كان في حالة تفوق تجاري على العالم فحرية السوق وعدم التدخل في التجارة كانتا تخدمان التاجر الغربي اللذين كانا لا يجدان منافساً قوياً لهماً ، أما بعد أن نهضت اليابان وألمانيا في الثمانيينات ونجحتا في تحقيق تفوق تجاري على أمريكا وحصل تحول في الميزان التجاري لصالحهما أخذت أمريكا تضغط عليهما لكبح نهضتهما إرضاء لها ! .

وزادت هذه الظاهرة عندما برزت مجموعة من الدول الناهضة صناعياً وتجارياً مثل كوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا وغيرها والتي أُطلق عليها اسم ( النمور الآسيوية ) فوجدنا أن أمريكا تتحول إلى دولة ابتزاز مباشر وصريح للنمور الآسيوية إضافة لليابان وألمانيا فزادت من تخليها عن اقتصاد السوق لصالح تدخل الدولة .

ومن المفارقات الوقحة أن القفزة النوعية في إصرار أمريكا على منع تدخل الدول في التجارة كانت بعد زوال الاتحاد السوفيتي فصنّعت العولمة وعادت إلى التمسك الحديدي بما يسمى بـ( اقتصاد السوق ) أي منع تدخل الدول في التبادل التجاري وترك السوق بعرضه وطلبه يقرر الأسعار .

أمريكا أرادت بالعولمة تسخير كل العالم لخدمتها وسد ثغرات اقتصادها المريض ، وشهدت التسعينيات ذروة الترويج للعولمة وضرب القومية والحدود والهويات الوطنية ورفض تدخل الدول ... الخ ، لكن هذه الموجة كسرتها أمريكا ذاتها رغم أنها من أطلقتها أصلاً وفرضتها بالقوة على العالم ، والسبب هو فشل أمريكا مرة ثانية في السيطرة على العالم وتقرير اتجاهاته الاقتصادية والتكنولوجية ، فقد صعدت الصين بقوة ونهضت روسيا مرة أُخرى وعززت كوريا الجنوبية قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية وظهرت مجموعة البريكس ... الخ ، فتراجعت أمريكا ولم تعد قادرة على منافسة آسيا وغيرها فاختير " ترامب " رئيساً ليمثل المرحلة الأكثر لصوصية ، فارتدت أمريكا عن عولمتها وعادت لعصر الحماية وتدخل الدولة ، في تأكيد واضح على أن ما يحرك نخب الغرب هو الأنانية المطلقة وليس قيم أخلاقية أو قانونية ، فهل يوجد انحطاط وعدوان أوضح من هذا ؟ . وإذا قارنا ترامب وهو أُنموذج للأمريكي التقليدي فإننا نرى هوامش البدو والريف أكثر إنسانية وأخلاقية وتمسكا بالقوانين من أمريكا وترامبها ! ، فما معنى هذه الحقيقة ؟ ... يتبع .

Almukhtar44@gmail.com

30-4-2019

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page