top of page

الرفيق المجاهد صلاح المختار - نقد نظرية ترييف المدينة ، الحلقة السادسة



نقد نظرية ترييف المدينة

الحلقة السادسة





ما هي الإيجابيات النوعية للبدو وسكان الريف والتي تضعهم في مقام أرفع من مقام سكان مدن الغرب من حيث الترابط الإنساني ؟ ، أهم الصفات المشتركة للبدو والريفيين مقارنة بسمات الحضر بما يلي :



1- الشجاعة الفطرية إحدى أهم سمات البدو والريفيين ومصدرها هو صعوبة الحياة في بيئتهما لذلك يتربى البدوي والريفي على مواجهة مخاطر البيئة فيكتسب الشجاعة ، بعكس ابن المدينة الذي يفقد الكثير من حوافز الشجاعة بسبب الطبيعة الرخوة والآمنة نسبياً للمدينة واعتماده على حكومة تتولى حمايته .

2- الكرم البدوي ، والتقاليد البدوية عموماً ، في أصولها التكوينية وفي وظيفتها عمليه تخطيط استراتيجي ، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى حديث ، هدفها ضمان سلامة المجتمع البدوي من مخاطر الصحراء والجفاف ، فالبدوي يعيش في صحراء جرداء يندر الماء فيها وتكثر الحيوانات المفترسة واللصوص وهو ما يعرضه للموت في أي لحظة ، لذلك يحتاج البدوي إلى وسائل ضمان آمنة وسلامته مع عائلته وقبيلته وأبرزها الكرم لأن أصله هو إنشاء علاقة ود مع الغرباء لتجنب شرورها ، لهذا فالكرم هو عبارة عن رسائل للآخرين فيها نوايا طيبة تجاه الآخر ، ملخصها يقول : أنت ضيفنا ونقدم لك أغلى مانملك لتكريمك حتى وإن لم نكن نعرفك ، أليست هذه استراتيجية بكل ما تعنيه الكلمة متقدمة جداً ظهرت منذ آلاف السنين ؟ .

لكن ما يجب الانتباه له مهم جداً وهو أن الكرم في أصوله التكوينية يستبطن نزعة الأنا بطريقة إيجابية فلكي يحافظ ساكن الصحراء والريف على الأنا وسلامتها يقوم بتقديم خدمة للآخر المرشح لإيذائه فيلتقيا في منتصف طريق الأنا وهو إرضاء كلاهما وتعبيد طريق الوفاق والمودة بينهما مما يزيل أو يقلل من مخاطر تصادم الأنوات المتهالكة على المنفعة على حساب الآخر ، وهذا سلوك عقلاني ناضج جداً وبالتدقيق نرى أن العقلانية الغربية أُحادية الجانب تنمي الاستبداد التلقائي لدى الأوربي المحاصر بديكتاتورية الأنا بينما العقلانية البدوية منفتحة ومتعددة الجوانب وتنمي روح التفاعل وإمكانيات الانفتاح ، وهذه الحقيقة تبثت أن ما روج عن البدو من ضيق الأُفق تزوير بُني على أساس قياس طريقة تفكير هوامش البدو وليس البدو ، ولو أن هذه الطريقة البدوية والريفية العربية طبقت في العالم لتجنب أغلب مصائبه .. وبالتأكيد فإن الكرم وإن كانت هذه أصوله فإنه تحول إلى طبيعة ثانية تكتسب بالتربية وتمارس مع الجميع حتى في ظل أحوال مادية ممتازة ليس فيها تهديد للحياة وصار مجرد تقليد قبلي عربي .

3- التماسك القبلي في البادية والريف أحد أهم ضرورات البقاء والمصدر الأساس للقوة نتيجة غياب الدولة ففرض ذلك نشوء كيانات أقل منها تضم أبناء عوائل تربطها صلات الدم والأصل الواحد اتخذت تسمية القبيلة وهي الإطار المنظم لحياتها والضامن للدفاع عن أبناءها ، ومنها نشأت فكرة الثأر كوسيلة ردع لمن يعتدي على أبناء القبيلة ، وهذا التقليد هدفه واضح : ضمان تماسك المجتمع و تحشيد قوته في حزمة واحدة تستخدم للدفاع الذاتي ضد التحديات .

4- يتميز البدوي والريفي بأنه ذو وجه واحد فهو في الإطار العام ونتيجة لتفكيره الأصولي لا يتقلب بانتهازية مدينية معروفة ، وهذا الفرق التربوي يضع خطاً فاصلاً بين البدوي والريفي والمديني ينمط سلوكهم بطريقة مختلفة ، البدوي والريفي يتعرضان لنمط واحد من التأثير في القبيلة ولكن المديني يتعرض للعيش مع أبناء قبائل أُخرى وكتل لا تربطه بهم صلات رحمية وهو يفرض حالة جديدة وهي تلاقي قيم مختلفة أو متناقضة تؤثر على الجميع بطرق مختلفة ، فينتج وضع مرتبك ومربك للجميع وسط هذا الكم المتناقض من الموثرات .

وبتفاعل تلك العوامل المتناقضة يولد الانتهازي وهو الفاقد للبوصلة والمتقافز بين مؤثرات مختلفة ولكنه متعلم أو مثقف يعي الكثير وعرف ما لم يكن يعرفه البدوي والريفي فيقوده تطور ملكاته العقلية إلى نوع من تعويم القيم وترك الأنا تتحكم في خياراته فلا يختار إلا ما يخدمه ، وما أن يدخل في درب الانتهازية حتى يبدأ بفقدان الشجاعة والكرم والاستعداد للتضحية ، لقد صار لدينا في المدينة كيان أكبر من القبيلة وروابطها ومع ذلك فتقاليد القبيلة مازالت قوية وهذا هو أحد أهم أسباب الاضطراب الاجتماعي .

5- الاعتماد على الذات لدى البدوي والريفي أحد أهم عوامل بقاءه بينما المديني يعتمد على الدولة في ضمان ذلك ، ومن يعتمد على ذاته يجبر على إخراج كل ما لديه من طاقات قوة وصلابة بينما من يعتمد على الدولة يترك قسماً ربما كبيراً من ضماناته على عاتق الدولة فيتوقف عن إخراج طاقاته الإنسانية كقوة حماية له ، وبهذا المعنى فإن البدوي والريفي يتمتعان بالاعتمادية على الذات أكثر من المديني .

6- البدوي والريفي يتميزان بأن تفكيرهما مطلق وليس نسبياً ، لذلك فهما يتصرفان وفقاً لنظرة متبلورة بقوة ، حتى وإن كانت خاطئة أحياناً ، بينما المديني يبالغ في ممارسة النسبية حتى تصل حداً يضيّع الخطوط الفاصلة بين الشيء ونقيضه مما يجعله مؤهلاً للانتهازية ، ولأن البدوي والريفي متصلبان ولديهما نظرة واحدة للأشياء خصوصاً المقدسة أو الحساسة لا يقعان في فخاخ الانتهازية الاجتماعية ، ولو قارنت ابن البادية بابن نيويورك لرأيت أن الأخير مستعد لممارسة كل سلوك من أجل المنفعة بينما ابن البادية والريف يكون مستعداً للموت على أن يجد نفسه في موقع تجاوز القيم تحت أي تبرير .

7- وتتحكم في البدوي والريفي قيم عليا مثل معاقبة المعتدي حتى لو كان من القبيلة من خلال مجالس الحكماء في القبائل واعتماد التعويضات ( دية ) التي يدفعها المعتدي للمعتدى عليه ، فالعدوان لدى البدو له عقاب بينما العدوان لدى الغرب المتحضر مزدوج الطبيعة فهو في الداخل منصف ولكنه مع الخارج يخلو من العدل والإنصاف ، لذلك لم تكن صدفة أن المعايير المزدوجه ظاهرة مدنية غربية وليس ظاهره بدوية .

8- البدوي عندما يغزو تحكمه المحرمات ومنها تحريم اغتصاب النساء أو قتل الشيوخ وغير المحاربين والاكتفاء بإنجاح الغزو ومن يخالف ذلك يحكم عليه بعار أبدي بين القبائل ويصنف على أنه من هوامش البدو والريف التي ينظر إليها بنوع من الاحتقار ، أما الغربي المتحضر فإنه بلا محرمات تقيد غزواته كما فُعل بأهل الأندلس ( محاكم التفتيش مثلاً ) وبأهل أمريكا اللاتينية ، وأمريكا والجزائر وجنوب أفريقيا وزيمبابوي واستراليا ... الخ ، فهؤلاء المتحضرون الغربيون قاموا بعمليات إبادة جماعية منظمة مخططة لملايين المواطنين الأصليين وبأبشع الطرق مثل اصطياد البشر وقطع فروه الراس لقبض المال مقابل كل راس ! .

9- ما سجل عن البداوة في أزمان قديمة يختلف تماماً عما سجل عن الرأسمالية فغزوات البداوة مقيدة بحاجات القبيلة المباشرة ، أما غزوات الغرب المتحضر فهي ليس لنهب مال الآخرين فقط بل هي تعبير عن نزعات إجرامية متأصلة ، بينما البدوي والريفي يحركهما الطبع البشري عندما يحتاج للبقاء في الحياه فيقوم بتوفير مصادر الحياة أو البقاء بالاستيلاء على ما يسد رمقه فقط ، والسبب في هذا الاختلاف هو أن البدوي محكوم بقيم عليا تقيده كثيراً بينما الغربي المتحضر غزواته غزوات الشبعان الثري الذي لا يحتاج للمال الفائض لكنه بسبب شرهه وأنانيته المتطرفه يقوم بغزوات من أجل تكديس المال والاستحواذ على أموال الآخرين ولكي ينجح لا بد أن يقوم بشتى الأعمال البشعة ضد ضحاياه ، وهذا ما لا يقوم به البدوي حينما ينهب فيكتفي بالنهب ولا يتجاوزه إلى إباده من نهبه ولا يعذبه .

10- عندما حكم العرب الأندلس وأقاموا امبراطوريات ضخمة مثل الامبراطورية العباسية وقبلها الامبراطورية الأموية لم يبيدوا أو يدمر البلدان التي دخلوها بل عمروها ونقلوا إليها الحضارة والثقافة والتعليم والفكر واحترام الإنسان ، واحترموا السكان الأصليين وعاملوهم معاملة العرب فساد العدل والإنصاف والمساواة ولذلك وصف عصر العرب بالعصر الذهبي في تاريح الإنسانية .

العرب في كل تاريخهم كانوا منفتحين عنصرياً فحتى في ذروة هيمنة المفاهيم القبلية هناك مفهوم معروف وهو ( موالى ) بني فلان أو ( لفيف ) لمن لم تعرف أصوله ، فالعرب يقبلون بهؤلاء الغرباء ويتم دمجهم بالعشيرة رغم بقاء المعلومات عنهم متاحة ، ويمنح اسم العشيرة حماية له فعروبتنا منفتحة وليست عنصرية وتنظر للإنسان بصفته واحداً في خلقه وقيمته ، وللتمييز بين البشر وضع العرب معياراً أخلاقياً وصار من قوانين الدول المتحضرة وهو أن الأفضلية تقررها أعمال الإنسان وكفاءته وليس جنسه أو لونه أو عائلته أو وظيفته .

البداوة والريف في الوطن العربي هذا أصلها وهذا فصلها وطبيعتها فهي بالأصل متحضرة في السلوك حتى حينما كانت في قمة التخلف العلمي والتكنولوجي .

11- ثمة ظاهرة يلاحظها كل مراقب ذكي ومنها أن الأمي العراقي والمصري والسوري واليمني وغيرهم من العرب يتميز عن الأمي في الغرب بأنه واسع الأُفق بالفطرة ولديه حكمة وبعد نظر ويتصرف بطريقة تبدو غريزياً بأنها أخلاقية تقوم على التعاطف بين البشر بينما الأوربي الأبيض وفروعه في الأمريكيتين يتميز بالأنانية والفردية ويفتقر للعمق الفكري ولضوابط السلوك ، ومهما تقدم مدنياً وارتقى أكاديمياً فإنه يبقى مخلوقاً تتحكم به الأنانية أولاً وقبل كل شيء وبدون حاجات اضطرارية غريزية كقوة حب البقاء ، فما السر في هذا الفرق النوعي بين العربي الأمي المحكوم بإرث إنساني سابق والأوربي المتعلم والمثقف لكنه محكوم بنوازع أنانية غريزية ؟ .

لابد من تأكيد أن التربية المتوارثة لعدة أجيال تتحول إلى طبيعة ثانية لدى الإنسان وبمرور القرون تصبح عامل تكييف حتى لبعض الجينات الوراثية فيلد الإنسان وهو يحمل مؤثرات تراث أجداده الفكري والسلوكي أو بعضه على الأقل ، وهذا ما يؤكده علم الجينات الآن حيث أن العمق الحضاري وديمومته طويلاً له آثار لاحقة اجتماعياً وفكرياً وسلوكياً ، فمن عاش آلاف السنين في بيئة حضارات معروفة وأُخرى اندثرت وغطاها الزمن أو تعمد المؤرخون الغربيون التعتيم عليها ترثه الأجيال المتعاقبة .

12- البداوة مجتمع أبوي – بطرياركي - من أهم إيجابياته رعاية الشيخ لعشيرته ومجتمعه والدفاع عنهما حتى حينما يمتلك ثروة كونها من استغلال جهود أبناء قبيلته لكنه يبقى وصياً عليهم مسؤول عن حمايتهم والدفاع عنهم ، فهل هذه تربية سلبية أم إيجابية ؟ ، وهل القيم الأبوية البدوية خدمت الإنسانية أم أضرت بها مقارنة بالأضرار البنيوية التي حصلت في مجتمعات الغرب التي لا تحترم الأب والأم وتتركهما وحدهما وتكتفي ببطاقة تهنئة بالأعياد وفي أفضل الأحوال زيارات سنوية للأب والأم ؟ ! ، هل يمكن وصف هذه الصلة إلا بأنها قطع عجيب لصلات الرحم ؟ ! .

التكييف القسري الذي تمارسه حضارة الغرب يفقد الإنسان البوصلة الطبيعية في السلوك ويضعه تحت تأثيرات اللحظة والخارج وليس تحت تأثيرات فطرته الأصلية ، وهنا تبدأ الأنانية بالتعاظم والتحول من حالة غريزية طبيعية إلى مرض نفسي مدمر ، وهذا هو أصل كوارثنا الخارجي ، فلو دققنا النظر في سلوك بوش الصغير أثناء غزو العراق نرى هذ المرض النفسي طاغياً بشدة على تصرفاته .

13- ويتميز البدوي عن المديني بأنه شديد التحمل في الحياة وأثناء العمل وهي سمة نتجت عن قسوة الصحراء بالأصل فيتصلب عوده منذ الطفولة وتلك سمة إيجابية في الإنسان يفتقر لها المديني القليل التحمل والأناني السلوك بالنظر لاعتماده على ما توفره المدينة من أمن نسبي وعمل وكيان دولة ، وهذه الصلابة تساعد البدوي والريفي على السيطرة على الكثير من نوازعهما الفطرية الأنانية ... يتبع .

Almukhtar44@gmail.com

5-5-2019

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page