top of page

الرفيق المجاهد صلاح المختار - نقد نظرية ترييف المدينة ، الحلقة السابعة


نقد نظرية ترييف المدينة

- الحلقة السابعة -



14- وما يتجاهله أصحاب هذه النظرية هو أن أبناء البدو والريف حينما كانوا يهاجرون إلى المدنية يتمدنون بسرعة وليس العكس ، بل يتكيفون بحماس مع تقاليد المدينة وطرق عيشها وتفكيرها ، وكانت الهجرة هذه قليلة حتى خمسينيات القرن الماضي لأن الريف كان منتجاً زراعياً نشطاً ، ولهذا كانت المدينة قادرة بفعالية على تكييفهم طبقاً لتقاليدها وممارساتها .


ولكن في مراحل خراب الريف تحولت الهجرة إلى المدينة من محدودة إلى ظاهرة انتقال جماعي إلى المدينة وهو ما أظهر الجوانب السلبية في الريف والبداوة ونشرها في المدينة مثل جزر متناثرة داخلها .

ومما يلفت النظر هو أن أبناء الريف والبادية عندما تتاح لهم فرص الدراسة والعلم يتميزون على أبناء المدن الأصليين بقدرات تحمّل الدراسة والانضباط أكثر من أبناء المدن والسبب هو تربيتهم الصعبة .

التركيبة الاجتماعية للمدينة تعرضت لتغيير سلبي مهم نتيجة عاملين :

العامل الأول ، هو التدخل الاستعماري بكافة أشكاله بما في ذلك الحروب والغزو للبلدان النامية والتخطيط المسبق لتغيير تركيبتها السكانية وفرض أنماط سلوك مختلفة... الخ ، أما هدفه فهو تفتيت وحدة المجتمع والدولة لأجل تحقيق هدف أهم وهو تكييف الناس لخدمة نظام انتاج رأسمالي يفرض من الخارج ولا ينشأ تلقائيا في الداخل كما حصل في أوربا فولدت الرأسمالية العربية هجينة ، وأدى ذلك إلى خلق المزيد من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ، وأخطرها المشاكل السلوكية والنفسية ، والتي تضغط على الناس من أجل الهجرة بحثاً عن وضع مناسب .

لقد تم تهجير الملايين من العالم الثالث لأجل استخدامهم كأداة عمل ومنها استعباد السود واختطافهم واستخدامهم كعبيد في أوربا أو العالم الجديد وهو أمريكا ، أو عبر التدخل الاستعماري الذي اعتمد على فئات أو طبقات معينة تكيفت وفقاً لما يريده في ترسيخ جذوره فغير التركيبة السكانية جزئياً أو بقدر مهم .

أما العامل الثاني ، فهو الأنظمة الوطنية التي استلمت الحكم لأجل التحرر الوطني وإنهاء الفقر والظلم الاجتماعي والتمييز الطبقي ، ولكن ونتيجة لقلة خبرتها والضغوط الخارجية الشديدة عليها التي أفقدتها بعضاً من عقلانيتها وقعت في أخطاء في تطبيق الاصلاح الزراعي ، والتصنيع أيضاً ، أدت إلى هجرة واسعة النطاق من الريف إلى المدينة وهو ما حصل في العراق ومصر وسوريا بعد إصدار قوانين الاصلاح الزراعي التي كانت بدايتها تجريبية فظهرت الأخطاء وهو ما زاد الهجرة إلى المدن نتيجة عجز الزراعة عن توفير مداخيل كافية لمن يزرع أو توفير محاصيل لمن يستهلك .

ولكن ، حتى في هذه الحالة فإن الهجرة ورغم كل آثارها السلبية إلا أنها كانت محدودة وأمكن السيطرة عليها وعلى آثارها جزئيا أو بدرجة عالية وحسب البلدان ، لكن ما جعل السلوك الممثل لسلبيات الريف قوياً هو التدخل الغربي والصهيوني بصور عمل مخابراتي أو حروب تشن ضد العرب أو ضغوطات وأزمات مستمرة تجبر النظم الوطنية على إعادة النظر بسياساتها بطريقة غير مدروسة رداً على الهجوم الغربي – الصهيوني ومن التحق به مثل إسرائيل الشرقية التي كانت عاملاً حاسماً في زيادة الاضطرابات السياسية والاجتماعية خصوصاً بعد استخدام الرافعة الطائفية لتفكيك المجتمعات العربية والتي اقترنت باستنساخ تقاليد غير عربية وأغلبها فارسية تنتاقض مع تقاليد العرب فزادت ظواهر التناقض الاجتماعي .

إن فشل بعض أوجه الاصلاح الزراعي كان سببه التدخلات الخارجية بدليل أن الأنظمة التي بقيت طويلاً في الحكم مثل النظام الوطني في العراق تعلم من التجارب تشخيص الأخطاء وإعادة تركيب السكان ببرامج تثقيفية طويلة وواسعة ، ومنها الهجرة المضادة والمنظمة من المدينة للريف بعد أن وزعت الأراضي ودعم ذلك بتقديم كافة الشروط المطلوبة لاستثمار الأراضي ، وهكذا ، أخذ أكاديميون ومثقفون يتسابقون للحصول على قطعة أرض في الريف لاستثمارها ، وكانت النتجية إنتاجاً حقق الاكتفاء الذاتي من المنتوجات الزراعية ووجود كميات كبيرة للتصدير والأهم اجتماعياً هو تعزيز تقاليد المدينة في الريف أي تمدين الريف بنطاق كبير ، وهي حالة مناقضة لجوهر نظرية ترييف المدينة .

فمن المسؤول الأول والرئيس عن ظاهرة الترييف أذاً ؟ : العوامل الداخلية والتي كانت مسيطر عليها أم التدخل الخارجي والذي حد كثيراً من القدرة على السيطرة على ترييف أوساط من المدينة ؟ ، وهل كان الغرب والصهيونية قد خططاً لإنشاء هذه الظاهرة من أجل هدم أسس التقدم الاجتماعي بخلق عوامل التشرذم والتفكك القيمي نتيجة تناقض بعض أوجه التربية الريفية والبدوية مع تربية المدينة ؟ .

أول ملاحظة لابد من أخذها بنظر الاعتبار عند محاولة تفسير السلوك هي أن خطورة البداوة في المدن صنعها التدخل الغربي والصهيوني والإيراني – والأخير بقدر تعلق الأمر بأقطار قريبة من إسرائيل الشرقية - وليست آليات السلوك الذاتية التي بقيت محصورة في المدينة ، بدليل أن أغلب من هاجر من البادية والريف إلى المدينة تمدّن بدل أن يريّف المدينة ، وهذا هو ما يتجاهله أنصار نظرية ترييف المدينة ، وكان أبناء الريف وذوي الخلفيات البدوية يتفاخرون بتحضرهم ومدنيتهم ويتمكسون أكثر من أبناء المدن الأصليين بالشكليات المدينية كالملابس وطرق التصرف .

15- ولدينا أمثلة واضحة تؤكد بأن أسوأ تقاليد التخلف التي ظهرت في المدينة العراقية كان بسبب التدخل الخارجي وليس العوامل الداخلية ،فاختيار حثالات المجتمع في العراق بعد الغزو ليصبحوا حكاماً وماسكي الثروات كان هدفه الواضح جداً هو إكمال تدمير الدولة ثم الانتقال لتدمير المجتمع بقيمه العليا وتقاليده العريقة وتحويله إلى بيئة متخلفة لمجاميع وكتل متناحرة لا يربطها خلق ولا قيم ولا قدسية ، تسوده الأنانية والنهب وتصفية الآخرين ، والنتيجة طبعاً هي أننا نكتشف بأن نظرية ترييف المدينة كسبب لمشاكلنا مجرد ضحكة في مأتم حزين تجلب اللعنات على مطلقها .

16- وكي نجعل دحض نظرية ترييف المدينة مسنوداً بتعدد الأدلة لابد أن نشير إلى تجارب دول غير عربية نهضت وحققت تقدماً كبيراً رغم أنها حققت ذلك على أكتاف الريف ، فلو سألنا : لِمَ عجزت تربية الريف السائدة في مجال قوة العمل في الصين وماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية عن كبح جماح النهضة العلمية والتكنولوجية وتحققت نهضة صناعية كبيرة ؟ ، الجواب هو أحد أهم مفاتيح فهم ما جرى في العالم ومازال يجري ، فقد نهضت هذه الدول لأن الغرب – باستثناء الصين - لم يكن له معها أهداف استراتيجية عدائية كما هو حاله مع العرب ، وكانت تلك البلدان الآسيوية جاهزة للتحول إلى مناطق استثمار للغرب واليابان فأصبح للغرب مصلحة في استقرارها وعدم حصول أي اضطراب اجتماعي أو سياسي جوهري يمنع الاستثمار الرأسمالي ووضعت قوانين تحترم المواطنة وتمنع بالتالي تغليب قيم الريف الفوضوية عليها ، ووضع ضوابط تمنع استخدام الجيش في التغيير السياسي لضمان الاستقرار وهو أهم شروط الاستثمار الخارجي ، وأكمل الغرب كل ذلك بنقل التكنولوجيا الحديثة إليها كي تعمل بنجاح وتتقدم بسرعة رغم أن أغلب من عملوا في تلك المصانع كانوا من العمال والفلاحين الفقراء .

كانت للغرب مصلحة في استثمار الطاقة السكانية ومنع تفرقها فتحيدت الفروق بين المدينة والريف ومنع التمييز بين مدني وريفي فلم تظهر تلك الانتماءات وتتعملق اصطناعياً لتدمر أو تضعف الانسجام الاجتماعي وتخرب بيئة الدولة والمجتمع وتعرقل النهوض الوطني .

وربما يقول قائل ، ولكن هل كانت توجد مشاكل بين الريف والمدينة في تلك البلدان ؟ ، فنرد .. نعم ، ومثل مشاكل أي ريف مع أي مدينة في العالم تقريباً والفرق أن الخارج لم يحرك التناقضات والخلافات بين المدينة والريف في تلك البلدان الآسيوية ويضخمها ويسخرها لخلق أوضاع تمنع النهضة والتقدم بينما تعمد تضخميها وتحويلها إلى أداة تهديم لأي مشروع نهضوي عربي .

لقد دعم الغرب حكام فاسدين ومستبدين ومتخلفين فكرياً وكان أحد أهم أهدافه معرفة الغرب ومخابراته بأن مثل هؤلاء الحكام سيدمرون كل عقبة تقف أمام نوازعهم حتى لو كانت الرابطة الوطنية ومستقبل الأمة العربية ، وسقى بذور التخلف الريفي ونماها عمداً لتصطدم بتقاليد المدينة وأهلها فتخلق الفوضى وتهدم عوامل النهضة ، بينما من دعمهم الغرب أو على الأقل لم يتأمر على إسقاطهم في البلدان الآسيوية كانوا تكنوقراط أو ساسة لديهم قدر كبير من الاستقلالية إن لم يكن الاستقلال الكامل والرؤية الوطنية وقدرت أن هؤلاء يتمكنون من تحقيق نهضة عامة بفضل الاستثمار الأجنبي الغربي تحديداً فلم يمنعوا دورهم التنويري مثل "مهاتير محمد " في ماليزيا و" سوكوان لي " في سنغافورة حيث كانا متنورين وبعيدين عن الفساد رغم توجههما الرأسمالي بعكس من نصبتهم أمريكا حكاماً على العراق وغيره وتميزوا بالفساد والتخلف ، فهل نرى الآن الهدف غير المنظور للغرب من تنصيب مثل هؤلاء الحكام علينا ؟ ... يتبع .

Almukhtar44@gmail.com

10-5-2019

Commentaires


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page