الرفيق المجاهد صلاح المختار - نقد نظرية ترييف المدينة ، الحلقة الثامنة
- مفكر قومي
- May 13, 2019
- 5 min read

نقد نظرية ترييف المدينة
- الحلقة الثامنة -
17- " الفرهود " كلمة في اللهجة العراقية تعني سرقة الممتلكات العامة والخاصة أثناء الأحداث التي يفلت فيها الأمن أو تتاح الفرص لذلك ، وكثيراً ما يتهم أبناء الريف والبدو بممارسة الفرهود كصفة ملازمة لهم ، فهل هذا الاتهام صحيح ؟ ، الجواب يأتي من الواقع الذي يؤكد بأحداث متتالية حاضراً وماضياً بأن النهب ليس سمة مقتصرة على بدو وريفيين ، بل هي سمة إنسانية عامة كما سنرى وليس مقتصراً على العالم الثالث ، وإن كان صحيحاً أن الإنسان كلما تخلف ثقافياً واجتماعياً وتعرض لاضطهاد الفقر وجاع - وهو أخطر أنواع الاضطهاد على الطبع البشري – استيقظت نزعة النهب - وليس زادت - لديه كرد فعل طبيعي وفقاً لغريزة البقاء ، فالأصل هو أن كل مخلوق حي يجب أن يأكل ويشرب ليعيش وبدون ذلك سيموت .
من هنا كانت غريزة البقاء أقوى محركات الإنسان الحيوانية والتي اعتمدت في بداية ظهوره على أخذ ما يجده في الطبيعة سواء بلا مقاومة أو بالقوة ، أي بالنهب ، كي يأكل ويشرب ويبقى في الوجود ، لكن التحضر والتمدن اللذان حققهما الحيوان المسمى إنساناً ونجاحه في اكتشاف كيفية الزراعة وتدجين الحيوان وتنظيم الطبيعة وضمانه الأكل والشرب فرضاً تجميد نزعة النهب وتكرس ذلك بقوة القوانين والتقاليد ، لكن هذه النزعة قيدت ولم تمحى لأنها أثرت حتى جينياً خصوصاً لأنها كانت ضمانة البقاء عندما يتعرض الإً نسان للموت جوعاً ، فعدت علمياً طبيعة ثانية مكتسبة بالتراكم التاريخي وقوة العادة فترسخت ، ولكن الأثر السلبي لتلك الطبيعة الثانية يطل بوجهه القبيح الذي شيطنته القوانين والتقاليد كلما فقد السيطرة على وعيه الاجتماعي فيعود لطبيعته الثانية بسرعة قافزاً فوق القوانين التي وضعها والتقاليد التي احترمها ممارساً النهب كأنه خلق اليوم وبلا تحضر أو تمدن ! ، لقد تحركت الطبيعة في حالة طارئة ، ولو نظرنا إلى تقاليد الإنسان البدائي لوجدنا ما يشجع على النهب حيث اعتبر النهب حقاً ، وإلا كيف تنهب وأنت تعرف أنه عار عليك ؟ .
هذا ماحدث في العراق بعد الغزو الأمريكي له عندما نهبت قصور الشعب من قبل أبناء الشعب ، مثلما نهبت المتاجر في باريس ونيويورك من قبل المتمدنين الأوربيين والأمريكيين من أبناء الشعب ، فـ" فرهود " نيويورك المتكرر بسبب انقطاع الكهرباء ، ونهب باريس أثناء تظاهرات ذوي الستر الصفر حالياً وهما من أرقى حواضر الغرب لا تختلف جوهرياً عما جرى في العراق ، وتقدم لنا الدليل الحاسم على خطأ ربط النهب بفئة اجتماعية أو بهوية قومية محددة لأنه طبيعة ثانية كامنة في المخلوق الحي سواء كان إنساناً أو حيواناً ، وأخيراً أن وجود الشرطة والقوانين والردع الحكومي هدفه الرئيس منع ردة الإنسان وممارسة النهب أثناءها ، وإذا أسقطنا هذه التهمة عن البدو والريفيين نكون دمرنا أهم ما يعيب على البدو وأهل الريف من تهم .
18- نعم سجل مؤرخون وكتاب على البدو وأهل الريف سلبيات كثيرة ومنهم "ابن خلدون " ولكن ما لا يجوز إهماله لأهميته الفائقة هو أن هؤلاء شرحوا حالة نمطية قائمة في زمانهم ومكانهم وكانت صحيحة وقتها وفي مكانها ، ولكن هل يبقى السلوك البشري ثابتاً رغم حصول تبدلات نوعية في المجتمع وداخل الإنسان ؟ ، بالطبع كلا ، فهؤلاء الكتاب والباحثين نظروا للخلف ودرسوا واقعهم فوجدوا ممارسات معينة مقترنة بفئات معينة فوضعوا نظرياتهم وفلسفاتهم طبقاً لما عاشوه ، فهي نظرة موضعية مكانياً ووقتية تاريخياً إلا ما تعلق بالطبع الإنساني سواء كان الطبع الغريزي أو الطبيعة الثانية المكتسبة .
لذلك فما قاله " ابن خلدون " وغيره ليس صواباً مطلقاً ولا يفسر كل حالات البدو والريفيين وبغض النظر عن الزمان والمكان بل هو دراسة في حالات معينة ووقت معين ومكان معين ، الأمر الذي يجعل التوكأ عليه في وصف الريفي والبدوي حالياً بصفات سلبية ، رغم أنهما تغيرا كثيراً بتأثيرات قوية من العصر الحديث والذي لم يعش فيه ابن خلدون وغيره ، خاطئ علمياً وعملياً ومضلل أخلاقياً وسياسياً ومعرفياً والتضليل هو الهدف الأخطر الذي اعتمد عليه الغرب أو تلاميذه العرب في إسقاط نظريات قديمة على أوضاع حديثة مختلفة .
وما تفرض الضرورة تذكره دائما هو أن ابن خلدون وغيره كان يصف حالات أُنموذجية كانت موجودة في صحراء كما هي ببشرها ، وريف كما هو ببشره ، ومدينة كما هي ببشرها ، وكانت هناك حدود تقاليدية واضحة جدا تفصل بين هذه المكونات الثلاثة وتضع تدرجا شديد الوضوح بينها، فصار التنميط سهلا بل وضروريا ، ولم يكن في زمن ابن خلدون وغيره تدخل خارجي مصمم بالأساس لتغيير ثقافة وتقاليد الآخرين فالغزو في الماضي كان يتم بطرق بدائية تفتقر لعبقرية العصر الحديث الشيطانية وكان الغزو بحد ذاته من أهم عوامل التمسك بالهوية الخاصة لضحاياه ، ولهذا كانت القيم والتقاليد والهوية تبقى قوية بحكم تمسك الناس بها .
حالة العالم الان تختلف بصورة جذرية حيث توضع خطط مبنية على نتائج الدراسات العلمية حول الانسان وما يؤثر فيه والتي تركز على نسف مصدر قوة وتماسك أي شعب وهي تقاليده وهويته القومية لأن إضعافها يمهد لتدمير الدولة والمجتمع ، ويبدأ تأثيرها بدون الاحساس به إلا بعد فوات الأوان وتغلغله وتدميره للبنية الأساسية للقيم والهوية ، لهذا كان تنميط ابن خلدون صحيحاً في زمانه ومكانه ولكنه تنميط مستحيل في عصر استكلاب الامبرياليات الغربية والقوى الاستعمارية الاقليمية ومنها الإيرانية والصهيونية وغزواتها كما حصل في العراق وسوريا وليبيا واليمن وفلسطين والأحواز وغيرها ، والتي تمارس الأساليب الوحشية مثل الإبادة الجماعية واستخدام أسلحة الدمار الشامل والتعذيب المستند على أسس علمية من أجل تذويب الهوية والتقاليد وهما أهم عناصر تماسك الشعب ووحدته الوطنية .
ومما تقتضي الضرورة عدم نسيانه هو أن المدينة والريف والصحراء لم تعد كيانات مستقلة ومتباينة كما كانت في عصر ابن خلدون بل تأثر الجميع بما حصل في عصر التلفزيون والانترنيت اللذان وصلا الريف والخيم الصحراء عبر الأقمار الصناعية ، فتغيرت الكثير من القيم فنجد البدوي والريفي يصرخان قلقاً من تمرد الأبناء وممارستهم لما يمارسة ابن نيويورك وباريس ! ، أليس هذا هو مفهوم ( القرية الألكترونية ) التي قلصت الجغرافية وتأثيرات الاخلاق والتقاليد ؟ ، لذلك ، فالسذاجة هي أن نعتمد على ابن خلدون في تفسير واقعنا رغم أنه يساعد على فهم الجذور وسلوكيات الماضي .
بدوي وريفي اليوم يتمتعان بوعي علمي وتكنولوجي وثقافي افتقر لها بدوي وريفي الأمس فأضاف إليهما وسائل نهب متطورة وأخطر مما كان لديهما قبل قرون وهي نفس ما نراه في ابن المدينة ، وإحاطتهما بالعالم ولو بنظرة عامة يختلف عن ضيق أُفقهما قبل العولمة وانتشار أدوات المعلوماتية في الريف والصحراء مثلما انتشرت في المدينة .
لقد ضاقت الحدود القيمية الفاصلة بين هذه الأصناف الثلاثة ( المدينة والريف والبادية ) وظهر قاسم مشترك بينها وهو تطور وسائل النهب مع تعاظم القدرة على التضليل وأحياناً بصورة قانونية ، وما يجري في العراق من نهب علني يمارسه أبناء المدن مثلما يمارسه أبناء الريف أحد أبرز أمثلة مستجدات العصر الحديث ، وهو ما لم يكن موجوداً في زمن ابن خلدون ، فهل يجوز تطبيق نظرية ابن خلدون على واقعنا بعد أن زال العالم الذي وصفه ؟ ، ولو سألت خبيراً بريطانياً مثلاً .. هل يمكن تطبيق أفكار فلاسفة عصر النهضة في أوربا الآن بحذافيرها ، فجوابه سيكون : كلا .
19- ما يتجاهله خبراء الغرب والصهيونية هو أن تقاليد البدو وإرثهم الثقافي ليس نتاج مجتمع متخلف حتى وإن عاشوا في القرون الأخيرة في بيئة متخلفة ، بل هي من آثار حضارات عريقه مندرسة في الجزيرة العربية قبل التاريخ المعروف وكانت أرقى الحضارات وما وجد في الربع الخالي وغيره من الجزيرة العربية من آثار يدل على قيام حضارات عريقة متقدمة جداً ثقافياً واجتماعياً وعلمياً ، فمثلاً هناك بنايات لا يمكن إقامتها إلا بأدوات متطورة وعلوم راقية ، ولكن وعندما بدأ التصحر ودمر الحضارة انعزلت المجاميع البشرية وتحلقت حول منابع المياه فنقلت منجزات الحضارة الثقافية ومنها القيمية شفهياً وبقيت محفوظة في الذاكرة كما كانت أدلة وجودها آثارها المادية والتي اكتشف منها القليل فقط والتي تؤكد أن تقاليد البدو وحكمتهم المتوارثة خصوصاً ثراء لغتهم الشديد الأهمية هي من بقايا حضارة عريقة وليست نتاج صحراء جرداء ، وعمادها أفضل ما في التقاليد البدوية : الشجاعة وعدم الازدواجية والكرم والحكمة والتماسك القبلي ، وهذه الملاحظات العملية تؤكد بأن بداوتنا ليست بداوة بالمفهوم العام الموجود الآن مثلاً في قبائل أفريقية أو بدو منغوليا ... يتبع .
Almukhtar44@gmail.com
11-5-2019
Comments